يمر الإنسان بمراحل تطورية، بدءاً من كونه حيواناً منوياً، استغرق تشكله ستين يوماً، تقريباً، وصولاً لمروره بالقنوات التناسلية، ثم ارتحاله لتلقيح البويضة، وبعدها للاستقرار في الرحم، الذي يمكثُ فيه تسعة شهور، يخرجُ بعدها إلى الحياة، ليبدأ منذ هذه اللحظة رحلة من التطورات على الصعيد الفسيولوجي والبيولوجي، تهبه في كل مرحلة شكلاً مختلفاً عن الشكل الذي كان عليه، ويتزامن ذلك مع التطور المعرفي، لهذا الكائن، إذ تتطور معارفة ومداركه وسلوكياته كلما تقدم في العمر. هذا التطور الذي ابتدأ بشكل بسيط: حيوان منوي عبارة عن خلية، مماثل للبداية التي تفرعت منها الأشكال كل على وجه الأرض، والتي انطلقت قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة، نتج عنها ملايين الأنواع من الكائنات، وكذلك البشر الذين بتنا نستوطن كل المناطق الصالحة للحياة، متكيفين مع بيئاتها، ومتنوعين في الأشكال والألوان والأحجام، بالإضافة للتنوع الثقافي واللغوي، الذي أخذ بالتطور بوتيرة أسرع من التطور البيولوجي. وهي النتيجة التي أوصلتنا لها أدمغتنا التي تطورت بشكل متميز، بحيث باتت تحتوي على عصبونات في القشرة الصدغية مؤهلة للتعامل مع الرموز اللفظية في أكثر من 6 آلاف لغة منطوقة، بالإضافة لاستجابتها لحركة اليدين في لغات الإشارة كما يقول جيروم كيغان، عالم النفس الأمريكي. كما أننا تمايزنا، عن أقاربنا من الكائنات، بإنتاج الثقافة التي أخذت هي الأخرى مسالك تطورية، في كل مناحيها، المعرفية، والعلمية، والدينية، والحضارية، وصولاً إلى عصر الشبكة العنكبوتية، الذي تلاقحت فيه الثقافات بشكل أكبر، وهي سائرةً في اتجاه ثقافة عالمية موحدة، تبقي على الفوارق البسيطة أحياناً، وأحياناً أخرى تؤدي إلى سحقها، دافعة بالثقافة إلى الفناء! إن كلمة الثقافة تختصر معظم ما يُعتبر غير اعتيادي في ما يتعلق بالإنسان، كما يبين لنا ريتشارد دوكنز، إذ أنه يرى بأن الانتقال الثقافي يشبه الانتقال الجيني من حيث انه ينشأ كشكل من أشكال التطور، وإن كان مقاوماً للتغييرات في الأساس، فكما أننا تطورنا من شكل بدائي، تطورت ثقافتنا بهذا الشكل، لتتراكم المعارف، وتتلاقح، منتجة كل أشكال التقاليد، والثقافات، والأديان، التي تزخر بها الأرض. وكما نرى شعوباً تختلف في الشكل واللون، نراها كذلك تختلف في اللغة والعادات والتقاليد والأديان، فهي تتكيف مع بيئتها بالشكل الذي تتكيف فيه الأجيال التالية مع ثقافاتها، وتضيف عليها، المزيد من التطويرات، بغض النظر عما إذا كانت توصيفاتنا لهذه التغييرات سلبية أو إيجابية، فالحضارة البشرية، ومنذ آلاف السنين، تولد، وتنمو، وتتحول، وتتجاور، وتتعارض، وينقل بعضها عن بعض، وتتمايز، وتستسلم للتقليد، ثم تندثر على مهل أو بصورة فظة، أو يندغم بعضها بالبعض الآخر كما يقول أمين معلوف. وليس الزمن هو البعد الذي تنضج فيه الأساطير وحسب، كما يرى معلوف، بل هو الفرن الذي استوت، وتستوي فيه كل هذه الثقافات، والحضارات، بالإضافة لمبتكرها، وأعني عقل الإنسان.