منذ ما قبل إنهاء معاهدات الحماية بين دول الخليج العربي مع المملكة المتحدة ونحن هنا في البحرين نستمع كشعب عربي أبي إلى منطوق شاهنشاهي نشاز مقزز يُهين اعتزازنا بقوميتنا ويسخر من افتخارنا بها. المنطوق الشاهنشاهي هذا لا صلة له بالجغرافيا؛ إذ نحن في مملكتنا الخليفية على الضفة الأخرى من الخليج العربي تفصلنا عن إيران كدولة ومجتمع مسافات تبلغ أميالا بحرية كثيرة، وبالعواطف مع حكومة هذه البلاد سنوات ضوئية، ولا يربطنا بها من المظاهر الجغرافية إلا البحر الذي يجري اليوم توظيفه لتهريب السلاح لإثارة البلبلة والبلية بين المكونات الاجتماعية بعد أن زينت لها نفسها نسخ صورة ما يجري في العراق وسوريا واستنساخه في أرض دون تدنيسها المهج والأرواح. فضلا عمّا تقدم فإن هناك شيئا آخر يفصلنا عن هذا البلد الذي اختص في تصدير مشكلاته إلى الخارج، وهو التاريخ -بما في أبعاده التي غرسها فينا آباؤنا وشربنا تفاصيله من الرضعة الأولى مع حليب أمهاتنا، وتلك التي ترسخت دروسا أكاديمية بمدارسنا- الذي لا يمكن للفرس عنوانا لنزعة شوفينية أن يجدوا فيه موطئ قدم لهم؛ لسبب بسيط ومنطقي جدا، وهو أن العرب عرب والفرس فرس. فمثلما باعدتنا الجغرافيا فإن التاريخ يغربنا. ومع ذلك فإن هناك عاملا يمكن أن يساعد على التقارب وهو الجانب الإنساني والثقافي والسياسي، ولكن يبدو أن إيران لا تعير اهتماما لذلك لانشغالها منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما بصناعة الثورة وتعليبها وتصديرها إلى دول الجوار، والبحرين من بين دول الجوار هذه تنال القسط الأكثر إيلاما! نعود إلى المنطوق الشاهنشاهي النشاز، ونقول إن مؤدى هذا المنطوق هو أن البحرين إيرانية، ومن ثم صار الحديث نفسه، يا سبحان الله، يجري على ألسنة المعممين، من أكبرهم إلى أصغرهم، ومفاده أن البحرين إحدى محافظات الجمهورية الإسلامية كيف ذلك، لا تعلم!! وها هي إيران اليوم تفصح بصريح العبارة أنها لن تكف عن زعزعة أمننا بالتعاون مع مجموعة آثرت بحسب ما تعتقده مصالح مذهبية لها على مصالح الوطن. يا للعجب! أشعر بأن تقليب صفحات التاريخ للحديث والإشارة هنا إلى محطة من محطاته المعاصرة التي عايشناها وشهدنا وقائعها مهم ومفيد لمن غلّب مصالحه المذهبية على مصالح وطنه، فدعنا نذكر أصحاب الذاكرة المثقوبة ببعض من صفحاته لعل الذكرى تنفع بعض المؤمنين وكثيرا من الكافرين بأفضال البحرين ومزاياها عليهم وطنا أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف: في ظل حكم الأمير الراحل عيسى بن سلمان طيب الله ثراه جرى استفتاء رعته الأمم المتحدة أتى يتقصاه ويراقبه جيوشاردي، وقد جاء ممثلا شخصيا لأمين عام الأمم المتحدة يوثانت، وقد خلص إلى القول في تقريره إن شعب البحرين صوّت كرجل واحد في الاستفتاء بأن البحرين دولة عربية مستقلة يحكمها آل خليفة الكرام. بعد ذلك وبناء عليه يفترض من حكم ودولة تحترم كيانها أن تكف عن أي حديث خارج إطار هذا الفصل الأممي وهذه الإرادة الشعبية البحرينية العارمة. لكن الحديث مع نظام لا يكترث بالشرعية الدولية ولا بالإرادة الشعبية حديث لا جدوى منه. ولعل ما صرح به علي خامنئي، مرشد ثورتهم بالأمس، في خطبته العرمرمية التي لم يعط اعتبارا فيها لا للشرعيات ولا المواثيق لأبلغ دليل على أن قادة هذه البلاد لا يعيشون إلا بما يضمرونه من شر للآخرين. اليوم وقد صرنا نستمع إلى ما يزعج آذاننا ويزكم أنوفنا من القول العفن المنبعث من تحت عمامة الولي الفقيه نطرح هذا السؤال المر: إلى متى يظل الشقاء الناجم عن لصوص الثورات يلاحقنا وعلينا تحمل تبعاته؟! إلى متى يطاردنا الشقاء من جارة انعتقت للتو من قبضة وغضبة دولية أدخلتها في عزلة مثل كائن مصاب بالجرب؟ وهذان السؤالان يتولد من رحم معايشتنا لأصدائهما في الواقع سؤال آخر بحجم الجرح الذي خلفه الحراك المذهبي الذي شهدته البحرين ومفاده، هل جنوح المذهبيين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية إلى الصمت، دليل رغبة مسكوت عنها إلى حين تتطابق مع رغبة ملالي إيران؟ إن السؤال، في الحقيقة يبقى مفتوحا ولا أشك في أن الساكت عن إبداء موقف منه قد أجاب، وآن له أن يمخر عباب البحر مشرّقا تاركا البحرين لمن أحبوها وأخلصوا في حبها الوفاء والولاء. الإشكال الحقيقي في صلاتنا بإيران لا يكمن في خطابات التحريض وبالونات التأزيم التي يتناوب أفراد الإكليروس الإيراني على إطلاقها تجاه البحرين كلما تحركت قضايا حقوق الإنسان وتجاوزات الباسيج في الداخل الإيراني، وإنما يكمن في تحويل التحريض على العنف إلى إرهاب حقيقي يستهدف رجالا نذروا أرواحهم خدمة للوطن والمواطن، وفي تدبر مسالك تهريب السلاح والمتفجرات، وفي تعهد تدريب مجرمين إرهابيين باعوا الذمم وأسقطوا الهمم وانقلبوا شرا على من يُفترض أن يكونوا أهلهم وذويهم. ويُعد هذا الأمر في أعراف العلاقات الدولية تعديا صارخا على حقوق الجيرة وحرمة الدول وأمنها الداخلي، وفي أعراف القيم الإنسانية إرهابا. متى يستيقظ لدى ملالي إيران الحس الإنساني، إذا كان هناك منه متبقى، ليتدبروا الخير لشعبهم أولا، ولشعوب الإقليم ثانيا؟ تساؤلي هذا ذكرني ببيت الشعر العربي القديم: لقد أسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نار نفخت بها أضاءت .. ولكن أنت تنفخ في رماد. لدي قناعة شخصية تتلخص في أنني لا أخشى إيران أبدا، ووجهة نظري في ذلك هي أن هذه الدولة تشطح كثيرا غير عابئة بمعطيات إمكاناتها قبالة إمكانية العالم وقدرته على ردعها عن ارتكاب ما تأتيه من حماقات متكررة، لكن خشيتي تكمن في أن بين ظهرانينا نفرا تجردوا من الغيرة وباعوا مقومات انتمائهم بثمن بخس بعد أن تبلد إحساسهم أمام مطالبات المذهب التي تمارسها وتوظفها وتضغط بها عليهم عمائم ارتبطت ارتباطا كليا بعقيدة ولاية الفقيه. نعم إن إيران هذه لا تخيف ولكنها تزعج. ففي عز صولجان الإمبراطورية الكسروية والصفوية الشاهنشاهية كانت هذه الدولة أمام إرادة العرب صفرا، فما بالك وقد أصبحت قابعة تحت أردية الملالي، هؤلاء الملالي الذين يشدون الوثاق بعمائمهم ليخنقوا أنفاس شعب تواق إلى تنسم أنفاس الحرية وإلى ممارسة حياته أسوة بغيره من شعوب العالم.