حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً على التخلق بخلق الرحمة، ورفع شعار: الراحمون يرحمهم الرحمن كما نفرهم من القسوة وعدم الرحمة، وقال عبارته الشهيرة: لا تنزع الرحمة إلا من شقي، كما نصح ووجه صلى الله عليه وسلم كل أتباعه في كل العصور وفي كل الأماكن إلى أن الجماعة رحمة والفرقة عذاب، وأكد لكل من يمارس العنف والقسوة مع الخلق بأنه سيلقى عقاب ذلك من الخالق العادل، فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وجعل الرحمة كلمة ملازمة للسان المسلم طوال اليوم، حيث نص عليها في رد السلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. إنه رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، كما أخبرنا القرآن الكريم بقوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. هكذا كانت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها رحمة وعفو وتسامح ومودة وإنقاذ لعباد الله من كل صور وأشكال الضلال، فقد أرسله الله برسالة عامة شاملة وكاملة وهادية للناس أجمعين.. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: إنما أنا رحمة مهداة، فرسالته صلى الله عليه وسلم رحمة في ذاتها، ولكن هذه الرحمة ينتفع بها من يستجيب لدعوة الرسول ويعمل بهديه ويسير على دربه ويحرص على التخلق بأخلاقه.. أما من أعرض عن كل ذلك فهو الذي ضيع على نفسه فرصة الانتفاع والهداية بهدي الرسول الكريم. يقول د. عبدالمقصود باشا، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك جيداً قيمة هذا الخلق الكريم (الرحمة) وأنه أساس كل الفضائل ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، ولذلك حرص على أن يكون رحيماً ودوداً متسامحاً في كل أفعاله، كما جاءت توجيهاته الكريمة لتحث المسلم على أن يتسلح بهذا الخلق الفاضل لينال الأجر من الخالق سبحانه، وليعيش محبوباً مرغوباً من كل الناس، فالإنسان الرحيم يحظى بحب واحترام وتقدير الناس جميعاً. قيمة رفيعة القدر ويؤكد د. باشا أن الرحمة خلق كريم وصف الله بها نفسه، كما وصف بها رسوله الكريم، ولذلك كانت في مقدمة الأخلاق الفاضلة التي تشتمل عليها منظومة الأخلاق الإسلامية، فهي قيمة رفيعة القدر، بالغة الأهمية، وهي ليست مجرد عاطفة عارضة أو شفقة وقتية مرتبطة بموقف معين، وإنما هي خلق ثابت ومتأصل في النفس الإنسانية، وشامل لكل قيم السلوك الفاضل في التعامل مع البشر، ومع كل الكائنات الأخرى، بل مع الجماد، فالمسلم الذي زرع الله الرحمة في قلبه يتعامل مع الجماد برحمة ورفق. وتأكيداً لذلك وترسيخاً لهذا الخلق العظيم في النفوس تكرر مفهوم الرحمة في القرآن الكريم (97) مرة توزعت في سوره ابتداء من قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وحتى قوله تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وتدور معانيها حول رحمة الله بعباده وذلك بإنزال النعم عليهم في الدنيا والآخرة، وفي مقدمتها بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم لهم بالهدى والرحمة، يقول تعالى: فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ويقول: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولبيان أن الرحمة لأصحاب الفضل واجبة، يقول تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أو التبشير بالرحمة لمن تاب وأناب، يقول تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله فرحمة الله قريبة من المحسنين، وهي لعباده المطيعين لأوامره سواء كانت أمراً أو نهياً، كما بين القرآن الكريم أن الرحمة هي أساس العلاقة بين الزوجين، يقول الله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، ومدح الله بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم. صفة الصالحين وعناية القرآن الكريم إلى جانب اهتمام الرسول الكريم بخلق الرحمة، وحرص المسلم على أن يبدأ كل عمل - عادة - بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الاهتمام القرآني والنبوي بخلق الرحمة - كما يقول المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر - من شأنه أن يجعل هذا الخلق الكريم حاضراً باستمرار في وعي الناس في كل الأوقات، حتى يكون التعامل بينهم قائماً على أساس من الرحمة والمودة والرفق. فالله هو (الرحمن) وهو (الرحيم) ورحمته وسعت كل شيء، والله يحب من عباده أن يكونوا على صفته، وأن يتخلقوا بأخلاقه، وما دامت الرحمة من أبرز صفاته فينبغي أن يكونوا رحماء فيما بينهم. والرحمة التي أرادها الله سبحانه وتعالى صفة لرسوله ولكل عباده الصالحين، تحمل معاني كثيرة، فهي الرقة، والتعطف، والمغفرة، يقول الله تعالى: وهدى ورحمة للمؤمنين أي: أردنا القرآن الكريم هادياً ورحمة، ولذلك قال سبحانه في آية أخرى: ورحمة للذين آمنوا منكم. لكن: ما هي الرحمة؟ يقول د. باشا: الرحمة - في أبسط معانيها - هي إرادة إيصال الخير، وهي اللطف والإحسان، أي التخلص من كل آفة أو نزعة تدفع الإنسان إلى الشر، مع إيصال الخير إلى الناس، فمساعدة الضعيف رحمة، ومد يد العون للمحتاج رحمة، وتخفيف آلام الناس رحمة، وعدم القسوة على من وما تحت يد المرء رحمة، ومعاملة الأرحام وخاصة الوالدين بالحسنى رحمة. فهم خاطئ الفقيه الأزهري د. علي جمعة، مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء، يؤكد أن غياب خلق الرحمة عن سلوك كثير من المسلمين أدى إلى انتشار العنف داخل مجتمعاتنا العربية، كما أدى إلى كثرة الجرائم والانحرافات السلوكية حتى داخل محيط الأسرة، ويقول: غياب القيم والأخلاق الإسلامية عموما، وخاصة قيمة الرحمة التي اختفت من حياة كثير من الكبار والصغار، هو السبب في معظم ما نعانيه الآن من عنف وقسوة، فكثير من المسلمين يرون أن (البلطجة هي الحل) ويرون في التخلق بخلق الرحمة ضعفاً واستسلاماً، وهؤلاء واهمون يلعب الشيطان بعقولهم، فقيمة الرحمة هي أساس كل الأخلاق الإسلامية، وهي تضفي على صاحبها رونقاً وبهاءً، وهي من الأخلاق التي تحمي المسلم من كثير من المصائب، ولذلك مدحها الله ورسوله، لما يترتب عليها من خير كثير في الحياة الدنيا، كما يترتب عليها كثير من الثواب في الآخرة، وقد رحمنا الله رحمة بالغة عندما أعلمنا أنه رحيم سبحانه تهدئة لروعنا، فبعد أن أخبر أنه الرحمن الرحيم أخبر بأنه كتب على نفسه الرحمة ليطمئن عباده، وأمر الله عباده بالتخلق بهذا الخلق القويم لاسيما مع أصحاب الحقوق علينا كالوالدين، إذ يقول سبحانه : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً. الرحمة مع الحيوان ويضيف: النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على التخلق بخلق الرحمة لما لها من تأثير في حياتنا العامة والخاصة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: الراحمون يرحمهم الرحمن، كما وردت عنه أحاديث كثيرة تحث المسلمين على التخلق بالرحمة فيما بينهم ومع جميع الخلق، وقد حذر صلى الله عليه وسلم أمته من أن ترك هذه الصفة الحميدة قد يستوجب غضب الله يوم القيامة، ولذلك حث على الرحمة مع كل الخلق، بل وحث على الرحمة مع الحيوان في موقف قل من يتذكر الرحمة فيه، وهو موقف ذبح الحيوان فقد ثبت في سنته صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأذبح الشاة وإني أرحمها أو قال: إني لأرحم الشاة إذا ذبحتها فقال: إن الشاة إن رحمتها رحمك الله مرتين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر. وينتهي مفتي مصر السابق إلى أن تفعيل خلق الرحمة في حياة الناس كفيل بحماية مجتمعاتنا العربية والإسلامية من كثير من صور الانفلات السلوكي التي تجرنا إلى جرائم كثيرة ومتنوعة، فالرحمة قادرة على أن تعيد إلى حياتنا الأسرية والاجتماعية الطمأنينة والاستقرار، ولذلك علينا أن نحتمي بها، ونجعلها منهجاً دائماً لحياتنا. واجب الأهل ويضم د. محمد عبد الغني شامة، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، صوته إلى صوت د. جمعة ويؤكد أن الرحمة فضيلة إسلامية سامية وصفة إنسانية عالية تشهد لصاحبها بالنبل والمروءة والنقاء، لأنه يحس بآلام غيره ويقدر مشاعره، ويسهم في معاونته، ويسعى في إزالة الضرر عنه، ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى استعادتها وتربية الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين عليها، ذلك أن القسوة والبلطجة ليست حلاً، وقد أفسدت حياتنا كلها، ولابد من تربية أخلاقية صحيحة لأبنائنا، ويجب أن يكون الكبار قدوة طيبة لصغارهم، وأن يواجهوا مظاهر العنف والقسوة المبكرة التي تبدو في سلوكهم، وإقناعهم بأنهم في أمس الحاجة إلى هذا الخلق الإسلامي الرفيع، حيث لا يمكن صناعة مجتمع آمن ومتماسك إلا من خلال إشاعة الحب والثقة وخلق الرحمة بين الناس، وليس من خلال القسوة، وهذا ما تؤكده حقائق التاريخ وتجارب الأمم على مر العصور.. فالشعوب التي انتشرت بينها رذيلة القسوة دفعت ثمناً باهظاً لذلك، وتحولت حياتها إلى جحيم، والشعوب التي شاعت الرحمة في قلوبها عاشت حياة طيبة يعطف الغني فيها على الفقير ويرحم الكبير فيها الصغير ويوقر الصغير فيها الكبير، واستطاعت هذه الشعوب المتماسكة المتضامنة أن تواجه كل تحديات الحياة بفضل التمسك بقيم وأخلاقيات الإسلام.. فمن شأن الأخلاق الإسلامية وفي مقدمتها خلق الرحمة أن تضبط السلوك الإنساني وأن تحقق الخير للجميع، وتأكيداً لذلك يصف النبي عليه الصلاة والسلام رسالته بأنها رسالة الكمال الأخلاقي حين يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، والقرآن الكريم يمتدح النبي بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم.. وتحفيزاً للمسلمين على الالتزام بالأخلاق الفاضلة يقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً، كما وصف التقوى بأنها حسن الخلق. وختاماً: فنحن في أمسّ الحاجة إلى خلق الرحمة لضبط سلوكنا في كل مكان وفي كل المواقف، ولنحمي أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا من تداعيات القسوة، وحتى نعيش حياة سعيدة في ظل قيم وأخلاق الإسلام، ويشيع بيننا قيم التسامح والرفق والرحمة والتكافل الاجتماعي والإنساني.