عبدالرحمن الشبيلي إذا كان هناك اقتناع بأن وسائل الإعلام الرسمية في سائر أنحاء الوطن العربي لا تحقق طموحات مجتمعاتها، وأن هناك عزوفا عن الإعلام الحكومي من قبل شرائح مختلفة من العامة والنخب على حدٍ سواء، وأن وسائل الإعلام الخارجية صارت تنافس الوسائل الوطنية، وأن الصحافة المحلية بقيت تراوح مكانها منذ عقود، وأن المجتمعات صارت تتجه إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل استقاء الخبر بفورية؛ إذا صح ذلك كله أو معظمه على مستوى العالم العربي، جله أو بعضه، فإن الإعلام الرسمي فيه يعيش أزمة لا ينبغي لها أن تدوم، وإنه يمر بإشكالية يجب البحث لها عن حلول، وتنطلق هذه الخواطر - التي تتتبع ملامح الظاهرة وتجتهد في طرح بعض الحلول بعيدا عن الأشخاص والعهود - من أن معظم الأجهزة الرسمية تمارس عملها اليوم بعقلية الماضي مرتدية ثوب الحاضر وتقنيته، وبالتالي فإن التطور الحقيقي لن يتحقق إلا بتجديد الفكر وتغيير الأساليب وتحريك المياه الراكدة، وعندما يستشعر العنوان وجود أزمة فإنه يعني التسليم بوجود خلل وقصور، كما لا ينكر في الوقت نفسه ما يحتويه هذا الإعلام الرسمي من إيجابيات. * لقد أثبتت نماذج معيشة أن التأثير لا يتأتى بالضرورة مع المقرات الزاهية أو بتحديث المعدات، وأن تضخيم الكوادر لم يعد المعادلة الأهم في التفوق، بل لعله يصبح أحيانا عبئا على عمليات التطوير. والأمر الثاني، أن كثرة التلويح بخصوصية المجتمع وثوابته، وأن المبالغة في تقدير العناصر الإيجابية في إعلام أي دولة، تشكلان أحيانا أعذارا للإبقاء على الحالة الراهنة، وأسبابا للإحجام عن التغيير ولتخدير العزائم عن التفكير في الإصلاح. * السعودية مثالا: خلفية تاريخية كانت الإذاعة والتلفزيون في المملكة العربية السعودية في الستينات والسبعينات، وفي حدود إمكانات متواضعة، أكثر استجابة لتوفير الترفيه عبر الشاشة الصغيرة والترانزستور، وكان الإعلام الخارجي – عبر الكتب والأفلام الإعلامية عالية الإنتاج - يقوم بدور نشط للوصول إلى الخارج، ولدعوة الصحافيين الأجانب بالعشرات سنويا، ثم جدت بالتدريج ظروف إدارية وسياسية واجتماعية عدة، جعلت وسائل الإعلام المحلية تتراجع إلى مستويات أقل، وتبدى هذا الواقع بخاصة على صعيد الإعلام الخارجي، الذي أصبح، ولا يزال، الحلقة الأضعف، وبدا أداؤه متواضعا عند الملمات السياسية الطارئة، وهو ما دعا الحكومة بدءا من أواخر السبعينات إلى مباركة اتجاه رأس المال الخاص إلى الاستثمار في وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية تسجل في الخارج، وتتحلّل من بعض قيود الرقابة التي كانت تفرضها الخصوصية المحلية، ويكون لديها المرونة في التصرف المالي والإداري، فظهرت على مدى العقود القليلة الماضية في لندن والقاهرة ودبي وقبرص جملة من الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية التي استهدفت الداخل والخارج على حد سواء، ساعد في تلك الفترة دخول الأقمار الصناعية بما كانت توفره من إشارات استقبال إذاعية وتلفزيونية وصحافية ذات ترددات عالية الجودة في كل أنحاء البلدان دون وساطات أرضية، وكانت تلك الوسائل المسجلة باسم مؤسسات خارجية، تلبي رغبات بعض شرائح المجتمع السعودي من الترفيه والمعلومات والأخبار بالقدر نفسه الذي توفره للمجتمعات العربية الأخرى، ومنذ ذلك الوقت انصرف معظم الجمهور المحلي والعربي إليها، بما صار يكفيه عن متابعة وسائل الإعلام المحلية التي صارت تنعت بنعوت لا تزال عالقة في الذهن إلى الآن. ونتيجة لذلك، لم يبق من متابعي وسائل الإعلام المحلية، خاصة الإذاعة والتلفزيون، سوى فئة لا تميل أصلا إلى الصيغ البرامجية التي تقدمها الوسائل الأخرى، وفئة أخرى تحرص على متابعة الأخبار المحلية ساعة تقديمها، وصارت المادة الوحيدة التي لا تستطيع وسيلة إعلام خارجية الدخول في منافسة فيها مع وسائل الإعلام المحلية هي احتكار البث من الحرمين الشريفين في المناسبات الدينية وعلى مدار العام، وقد بلغ من عدم قبول فئة محافظة في المجتمع لما توفره قنوات التلفزيون المحلي أن انكفأت على قنوات مشفرة تسيدت المشهد الإعلامي الداخلي عبر عقود ثلاثة ماضية. ومع ظهور وسائل إعلامية خارج الحدود متحررة من القيود الرقابية المتشددة، ولديها من المرونة النسبية ما يمكّنها من تقديم نشرات إخبارية لا تلتزم بالمعايير التي سارت عليها تقليديا وكالات الأنباء الرسمية، ساد شعور بخيبة الأمل وسائل الإعلام الرسمية في كل أنحاء العالم العربي، وصار الانطباع العام أن مخرجات الإعلام الحكومي ضعيفة متشابهة السمات ولا تقدر على المنافسة، لكن هذا الحكم سرعان ما تبدد، بعد أن ظهر نموذجا «أبوظبي» و«الجزيرة» المختلفان ليثبتا أن الحكومات إذا ما أرادت لأمر ما أن يتم فإنها تستطيع أن توفر له شروط الانطلاق. فقبل أكثر من 10 سنوات أرادت أبوظبي لإعلامها المرئي أن يكون مختلفا، فتحقق لها ذلك، وأرادت قطر أن تصنع محطة تلفزيونية إخبارية متميزة تنافس أيقونة المحطات الإخبارية العالمية «CNN»، وكان لها ذلك، فأثبتت تلكما التجربتان أن الإشكالية لا تكمن في الانتماء للحكومة من عدمه، وإنما في توفير المرونة مهما كان مصدرها، وهنا، في المملكة العربية السعودية، كان لنا تجارب عدة في تحريك الركود الإداري في قطاعات الحكومة، بدءا من «أرامكو»، التي تعد نموذجا متحررا من البيروقراطية الحكومية، مع أنها مملوكة بالكامل للدولة، وكانت لنا تجارب أخرى مع المؤسسات والهيئات العامة، لكن الأجهزة الإعلامية بقيت في شكل مديريات خاضعة لوزارة الإعلام منذ تأسيسها. أتت النجاحات التي حققها الإعلام السعودي الرسمي في فتراته الذهبية المبكرة، نتيجة وجود كفاءات وطنية جمعت بين الحماسة والتدريب الجيد، واستطاعت الإذاعة السعودية في الستينات الدخول في منافسة مع الإذاعات العربية الأخرى بجدارة معقولة، وخضعت الصحافة لتجربة جديدة لتوسيع قاعدة الملكية الفردية بتحويلها إلى ملكية مؤسسات جماعية أهلية، في محاولة للرفع من مستواها، وتمكينها من النهوض بقدراتها الفنية والتحريرية، وكان التلفزيون السعودي في الستينات سيد الموقف محليا على صعيد الترفيه ومصدرا للأخبار على الرغم من أنها كانت تأتي متأخرة وباهتة، وحقق التلفزيون بفضل التدريب ورفع طاقة الإنتاج المحلي في تلك الفترة نقلة كمية ونوعية عالية توازي ما كانت عليه حال المحطات العربية العاملة آنذاك، وبغض النظر عن مدى الاتفاق من عدمه على النهج الذي كان يسير عليه الإعلام الرسمي المسموع والمرئي آنذاك، فإنه كانت تربطه مع المجتمع حالة من التعايش الرضي، ببث لم يكن يزيد على ساعات محدودة، وبإمكانات تقنية صعبة. * الحالة الراهنة بدأ هذا المشهد يتغير عبر العقود القليلة الماضية، فلقد خسر الإعلام الرسمي عددا من قياداته الناجحة، وانحسرت مشاركات المثقفين في وسائل الإعلام، وانكمشت برامج التدريب، وتقلص الإنتاج المحلي من الدراما والمنوعات بدخول شركات إنتاج لا تخدم إلا مصالحها، وأخذ الإعلام المسموع والمرئي يقتصر في إنتاجه المحلي على أبسط صيغ الإنتاج وأضعفها وأقلها احترافا ومهنية، وكان من نتائج هذه الأوضاع المتراكمة، سطحية في الأداء المهني، وضعف في العرض، وضحالة في المضمون، وغياب ملحوظ في التدريب، وفي عدم تعويض الكفاءات المتسربة بمثلها أو بأفضل، أدت جميعها بالتالي إلى انحسار المستمع والمشاهد عن وسائل الإعلام المحلية المرئية والمسموعة، مع عجز الوسائل المقروءة عن اجتياز الحدود الجغرافية، وعندما تفقد الوسيلة الإعلامية جاذبيتها وتأثيرها تخسر أهم أسباب البقاء، ألا وهو تعلق المتابع وارتباطه بها، وهي لا يمكن أن تستعيد مكانتها إلا عبر جهد أصيل، يسبقه تشخيص واقعي، ورغبة صادقة في إثبات الوجود. من اليسير على أي ناقد إعلامي أن يرصد ضعف الاحتراف المهني بمختلف صوره، في مقابل انبهار واضح بما تمتاز به وسائل إعلام منافسة عربية وعالمية من مهنية عالية، جعلت المواطن يتعلق بها على الرغم مما له من ملاحظات عليها، ولأن الأخبار قد ظلت أهم ما تبقى عند الأوفياء من المواطنين للارتباط بوسائل الإعلام المحلي، فقد وجدوا في تأخرها عن مواكبة الأحداث الداخلية، وفي تطويل بعضها، وفي تركيزها على الأشخاص قبل المضمون، بعض أسباب العزوف عن متابعتها، ناهيك عن التندر عليها، ولقد لحقت بهذه المجموعة من وسائل الإعلام الأهلية قنوات إذاعية رخصت من الداخل، صارت غير ذات هوية، وغير ذات مضمون، وغير ذات مستوى، ولا تضيف إلى الإعلام الوطني أي قيمة. وأمام هذا المشهد الذي وظفت فيه التقنية لتختلط فيها المهنية العالية مع الإسفاف، صار المتابع لوسائل الإعلام بوجه عام، والرسمي منها بوجه خاص، لا يجد فيها ما يشبع غليله من المضمون الإعلامي الجيد المتوازن، في حال يمكن أن يقال عنها إنها انحدار في الذوق العام وسيادة الزمن الرديء للإعلام العربي، وصارت النخب تفضل قنوات ووسائل لا تنتمي إلى المنظومة الإعلامية العربية والمحلية، ولم تعد المنظمات الإعلامية العربية، كاتحاد الإذاعات العربية وأمثاله من الاتحادات بالفاعلية التي بدأت بها، وصارت اجتماعاتها رتيبة مكرورة. ثم جاء الإعلام المصاحب لموجة ما أطلق عليها «الربيع العربي»، وكان المظنون أن الزمن العربي لن يأتي بأردأ من تلك الصور التي اكتسبت السمعة السيئة فيما مضى من عقود الانقلابات العربية، فإذا بنا نكتشف أن الإعلام أصبح أسوأ من السياسة، وأنه بدلا من أن يقرب ويداوي ويعمل على توحيد القلوب وعلى وحدة الصف العربي وتقويته، صار يصب الزيت على بؤر التوترات، ويهيج الأحقاد، ويشعل الفتن داخل الوطن الواحد، ويصبح منبرا لمن لا منبر له، وكان المظنون أيضا أن زمن الضجيج والصراخ والردح قد ولى، وأن الوقت هو وقت المعلومة والطرح المتزن، وأن القائمين على الإعلام قد تعلموا أن عدم الرد هو أحيانا الرد الأبلغ والأوقع، كي يبقى الباب مفتوحا أمام القنوات الدبلوماسية لمعالجة أسباب الاختلافات وتباين وجهات النظر. لقد تعلمنا أن رسالة الإعلام عامة (والرسمي منه خاصة) هي الارتقاء بالذوق العام وصون العفة والحياء والتزام الوقار، وأنه المتمم لرسالة التربية والتعليم، وتفاءل الجمهور العربي بتعدد القنوات، واستبشر أكثر عندما استطاع الإعلام العربي امتلاك التقنية الحديثة في الصحافة والإذاعة والتلفزة، فإذا ببعض من تلك التقنية المتطورة تنتهي بأكملها إلى الإسفاف وتأصيل الخواء الفكري. كانت المشكلة الأساسية (في نظر المحاضر) مشكلة إدارة، أفقدت الإعلام الرسمي الدينامية والحركة والعمل المؤسسي، وتولد عنها جملة من المشكلات الأخرى، لعل من أبرز ملامحها تردي الاحتراف والإبداع وغياب الإنتاج الفني، وزيادة الكم على حساب الكيف بتدشين قنوات تلفزيونية وإذاعية غير ذات طعم، وكانت تلك الملحوظات محور كثير من كتابات المحاضر، يبديها بصراحة ناعمة، يحدوها تحرج شديد من أن ينتقد جهة كانت تربطه معها علاقة وظيفية سابقة، وعلاقة أخرى مستمرة من خلال عضوية المجلس الأعلى للإعلام. * في سبيل البحث عن الحلول كان المظنون أن الحل سيكون في تحويل الأجهزة الإعلامية الثلاثة إلى مؤسسات عامة، يوم أن كانت المؤسسات العامة هي الحل الأمثل المتاح للبيروقراطية الإدارية الحكومية، ثم لما تحولت الحكومة في العقدين الماضيين نحو الهيئات العامة، نادى المحاضر بالتوجه نحوها بعدد من المقالات، وقد تحقق في العامين الماضيين وبعد نحو أربعة عقود، تحويل الإذاعة والتلفزيون معا ووكالة الأنباء إلى هيئتين عامتين من المبكر الحكم عليهما، إلا أن بوادر الأمور لا تبشر بالتغيير. لقد دخل الإعلام الجديد بقوة في السنوات القليلة الماضية منافسا قويا لوسائل الإعلام التقليدية، ولم يعد بمقدور الحكومات التحكم بما يصدر عنه من فكر، أو السيطرة على مدخلاته ومخرجاته، وأضحت مؤسسات المجتمع المدني في العالم تنتظر من الحكومات أن تمنح الحرية لمستخدميه، معتبرة هذه المسألة من حريات التعبير، ولهذا فإن أمر التعامل معه يتطلب فكرا مرنا مستنيرا لا ضرر فيه ولا ضرار، لكن الأمر لا يمكن التغاضي عنه في زمن صارت استخدامات الإعلام الجديد تزيد من الشتائم وإثارة النعرات وكشف العورات، وتشارك مع برامج البث المباشر في بث الأحقاد، وفي فوضى الفتاوى الشرعية من كل من هب ودب. لسنا في هذا المقام بصدد مناقشة ما يدور في مجتمعات أخرى حول جدوى بقاء وزارات الإعلام، بعد عقود من الوصاية والاحتكار، لكن أجهزة الإعلام من إذاعة وتلفزيون ووكالات أنباء التي ظلت تحافظ على تنظيمها التقليدي نفسه منذ تأسيسها قبل عقود، ثم حازت مؤخرا على سمة الهيئات العامة، هي اليوم أشد ما تكون - على وجه الخصوص - إلى أن جهة إشرافية تنظيمية تشريعية تعمل على تنظيم قطاع الإعلام ورسم تشريعاته وسياساته، وتحل محل المجلس الأعلى للإعلام وربما محل وزارة الإعلام نفسها، وهو إجراء اتجهت إليه بعض دول عربية في الخليج والمشرق والمغرب العربي، وعملت به دول متقدمة من قبل لقد كان مجال الخدمات الإعلامية كالصيانة والإعلان والإنتاج من المجالات التي فتحت مبكرا للقطاع الخاص، لكن إعادة الهيكلة يمكن أن تفتح مزيدا من عمليات الخصخصة والتعددية الإعلامية، التي تخفف العبء عن الجهاز الإداري، وتمنحه المزيد من الوقت للإشراف والتنظيم، وإن فتح المجال - بضوابط - للمؤسسات الثقافية والاقتصادية الوطنية الموثوقة للدخول في استثمارات الصحافة والمحطات الإذاعية والتلفزيونية الأهلية، في ميادين الثقافة أو الترفيه أو الرياضة أو نحوها، يمكن أن يخفف الضغط على متطلبات المجتمع من وسائل الإعلام الرسمية المركزية، ويوجد التنافس معها، وهو أمر لا ينازعها - في الوقت نفسه - في اعتبارات السيادة السياسية، فضلا عن كونه يعيد الاستثمارات السعودية في الخارج إلى موطنها، ويخلق فرص التوظيف والتدريب فيها للمواطنين. لقد نجح القطاع الأهلي الخاص أفرادا وشركات، وبمباركة من الدولة ودعمها، في اقتحام عالم الإعلام، الإخباري والترفيهي والرياضي والثقافي في الخارج، وأسس إمبراطوريات عملاقة، أسهمت بنصيب وافر في دعم جهود إعلامنا الخارجي، لكن نجاحه هذا هو شهادة إثبات على عدم فاعلية إعلامنا الرسمي، ودليل على قصوره وضعفه، وكان الأحرى بنا أن نبحث في أسباب ذلك، وأن نستفيد من تجربة إعلامنا المهاجر، لتعزيز قدرات وسائل الإعلام الوطنية، بل الأحرى أن نسعى لتوطينه وإنهاء هجرته، في وقت يعرف الجميع انتماءه إلى هذه البلاد. إن الإعلام الرسمي السعودي خاصة، والإعلام العربي عامة، يواجه اليوم - أمام بضع وسائل غير تقليدية في عالم الإعلام منذ انطلاقة «CNN» الأميركية عام 1980م - مأزقا حادا، لا يكفي لمواجهته الاستمرار في إغماض العيون، بل ينبغي أن يواجه بالمنافسة والإبداع، فتلك الوسائل الجديدة لا تمتلك عصا سحرية، لكنها عثرت على مكمن السر في التفوق، ثم تنبهت بعض دول خليجية إلى قوانين هذه اللعبة الإعلامية، فانخرطت فيها بذكاء وإيجابية، واستعادت قسطها من الإقبال والقدرة على المنافسة، ووضعت لنفسها مكانا في خارطة الإعلام المتقن الصنع. إن التحديات التي تواجه وسائل الإعلام في محيطنا العربي، والدور المرتقب لإعلامنا في مثل هذه الظروف، التي أحصرنا بها منذ غزو العراق للكويت، لا يمكن أن يباشَر بأداة الأمس، فإذاعات الأمس وصحافته ومحطاته التلفزيونية لم تعد تتناسب وظروف اليوم، والجغرافيا لم تعد هي الجغرافيا، وأسقط الإنترنت والأقمار الصناعية الحدود والحواجز الرقابية والمكانية، حتى بدأت الإذاعات المتوسطة والقصيرة التقليدية في الانهيار والاضمحلال، وتداخل الليل والنهار، ولم يعد هناك فارق بين مفهوم المحلي والإقليمي والعالمي في الإعلام، وحلت الرقابة الذاتية محل الرقابة الحكومية المركزية، وصار البقاء والاستمرار يحكمان بعوامل الجودة والنوعية، لأن الخيارات تعددت، وأذواق المجتمعات تغيرت وتطلعاتها كبرت وأحوالها تبدلت، والأوضاع السياسية تعرضت للتحولات، وصارت المعلومة والتقنية متاحة بذات المقدار والصفاء لراعي الغنم في البادية ولأستاذ الجامعة، على حد سواء. لقد بلغ الإعلام الرسمي العربي بكل وسائله ووزاراته، ومنذ نشأة معظمها، مرحلة متقدمة من النضج العمري بما يجعله يرتفع عن التجارب والتنازلات، وأن لا يرتضي من الاحتراف بأقل من الكمال. إن كلاما أطول يمكن أن يصرف في الحديث عن واقع الإعلام السعودي، الذي مضى على صحافته 90 عاما وعلى إذاعاته ومحطاته التلفزيونية ووزارته أكثر من نصف قرن، ونريد له أن يرتقي بارتقاء البلاد، ويلحق بالزمن المعيش اليوم، ويواكب التطور الإبداعي الذي نراه من حولنا، لأن قَدَرَه أن يطلب منه المزيد من التجديد والتغيير، فهو مرآة أمة تمتلك من عناصر المجد والقوة والفخر ما يجعل إعلامها متواضعا مهما عمل. إن مساعي مشكورة قد بدت في الأفق للانفتاح، لكن إيقاعها لا يسير بالوتيرة المتسارعة التي تعمّ حياتنا الثقافية والاقتصادية، وهي مساعٍ ينقصها التخطيط واستشراف الآفاق الإعلامية الأحدث، وجهود تسير بقوة دفع تحركها آلة الضرورة التي لا تعرف التوقف، والنتيجة أن ما كل ما يدور يسير في اتجاه الأفضل. إنها دعوة مخلصة لوضع نظام إعلامي سعودي جديد، يأخذ في الحسبان أصالة الماضي وقيمه، ولغة إعلام الحاضر والمستقبل وإبداع الآلة وابتكار العقل، أما ما لم يدركه الوقت في هذا المقام فإن له مكانا آخر، بإذن الله، والحقيقة التي لا تغيب عن الذهن أن دولة بمثل المملكة العربية السعودية وشعبها جديران بإعلام راقٍ رفيع المستوى يليق بمكانتهما الإقليمية والدولية، الدينية والحضارية والسياسية والاقتصادية، ويتناسب مع ما ينفق عليه من أموال. * إعلامي سعودي.. والموضوع محاضرة ألقيت في منتدى عبد الرحمن السديري للدراسات السعودية.. 9 نوفمبر 2013