على الرغم من تنحي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن السلطة التي تشبث بها منذ العام 2006 حتى صيف عام 2014 حين أحرقت نيران تنظيم داعش الإرهابي مناطق شاسعة من العراق، إلا أن إرثه لا يزال يلقي بظلاله على بلاد الرافدين. بعد انهيار حكم نظام صدام حسين، تعطش الشارع العراقي إلى حكم ديمقراطي بعد عقود من الحكم الديكتاتوري المستبد، إلا أن الصورة لم تكن مشرقة بما فيه الكفاية بعد العام 2003، حيث استمرت حالة الضبابية والتخبط في الحكم السياسي والتبدل السريع للمناصب إلى أن تولى مقاليد الحكم نوري المالكي في نوفمبر العام 2006، حيث تم اختياره كبديل لرئيس الوزراء السابق وزير الخارجية الحالي إبراهيم الجعفري. وقدم المالكي نفسه على أنه الضامن لدولة القانون والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين جميع العراقيين من مختلف طوائفهم وانتماءاتهم، فأطلق معركة صولة الفرسان التي دخلت خلالها القوات الأمنية في مواجهة مع ميليشيات شيعية في مقدمتها جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، تركزت في مناطق جنوب العراق وبعض مناطق العاصمة بغداد، ثم أتبعها بعملية أم الربيعين التي استهدفت القضاء على تنظيم القاعدة والجماعات المتطرفة في محافظة نينوى. وتبددت تلك الصورة بوقت قياسي حين أطلق يد الميليشيات الطائفية واستمرت صولاتها وجولاتها إلى وقت قريب حتى استهدف عناصر من جيش المختار، الذي يتزعمه رجل الدين واثق البطاط الذي يقال بأنه قتل، المنطقة الحدودية التي تربط العراق بالسعودية والكويت بقذائف هاون في نوفمبر 2013، كما هدد قبلها بنسف ميناء مبارك. وما إن أحكم المالكي قبضته على السلطة، استأثر بالكثير من المناصب فإلى جانب رئاسته للحكومة تولى الرجل قيادة الجيش والقوات المسلحة واحتفظ مطولاً بحقيبة الدفاع إضافة إلى العديد من المناصب الحساسة التي عين فيها شخصيات محسوبة عليه، لا بل إنه عمل على تصعيد نجله أحمد وكلفه مهمات رسمية رغم عدم توليه أي منصب رسمي. وتردت العلاقات مع محيط بغداد العربي خلال سنوات حكم المالكي على حساب تقويتها مع الجار الإيراني، ولم تسلم غالبية دول المنطقة من تصريحاته النارية حيث كان يتهم بشكل متكرر السعودية وقطر والأردن وسوريا، وحملهم مسؤولية تنامي الإرهاب في العراق، حتى أن الولايات المتحدة راعية العملية السياسية في عراق ما بعد صدام، لم تسلم من انتقادات المالكي الذي اتهمها بإدخال التنظيمات الإرهابية لبلاده والتنصل من مسؤوليتها لا سيما الشق المتمثل بتنفيذ الاتفاقية الإستراتيجية. كما برع المالكي في استعداء شرائح واسعة من المجتمع العراقي وتأليبها ضده وتصنيفها في خانة الأعداء، بدءاً من عشائر الأنبار ونينوى غرب العراق حيث يتركز الخزان السني والتي ثارت على حكمه مطالبة بإطلاق سراح المئات من أبنائها ورافضة لـسياسة الإقصاء والتهميش فواجهها بالقمع الذي خلق بيئة حاضنة للتطرف، مروراً بقوات الصحوة التي طردت تنظيم القاعدة وأنهكته بيد أن رئيس الوزراء السابق تخلى عنها، إضافة إلى الكتلة التي يمثلها رئيس الوزراء السابق إياد علاوي. ولم يسلم حلفاء الأمس من نيران المالكي الذي استاء من الانتقادات المتكررة التي يوجهها إليه رجل الدين مقتدى الصدر، فأصدر مذكرة توقيف بحقه دفعته إلى البقاء في إيران لسنوات، ثم جاء دور النائب السابق لرئيس الجمهورية طارق الهاشمي والذي تم اتهامه بارتكاب جرائم إرهابية انتهت بإصدار حكم إعدام غيابي بحقه، كما نال الأكراد نصيب من تهديدات واتهامات المالكي لهم بمساندة الإرهاب وتهريب النفط والتلويح بالتدخل العسكري ضدهم، ما دفعهم إلى مقاطعة حكومته. وقام المالكي ببناء الجيش العراقي على أسس طائفية ما قاد إلى انهياره المروع أمام نحو 300 ارهابي من عناصر تنظيم داعش في صيف 2014 وليس أدل على ذلك حين انتشرت صور جنوده وهم يخلعون ملابسهم العسكرية ويفرون من وجه التنظيم مخلفين وراءهم آلياتهم العسكرية والعتاد الضخم ليقع غنيمة بأيدي المتطرفين. ورغم تردي الأوضاع أمنياً وسياسياً واقتصادياً في العراق خلال سنوات حكم المالكي، وفتور العلاقات مع محيطه الخارجي، والصدمة المدوية التي أعقبت سيطرة داعش على نينوى والأنبار ووصولها إلى تخوم بغداد، إلا أن الرجل لم يعتبر كل تلك الأحداث ذات أهمية تستحق أن يقدم استقالته من أجلها ويترك الحكم لشخص آخر وأراد ولاية ثالثة تستمر حتى 2018، فرفض كل الدعوات الداخلية والخارجية لتنحيه. ولكن دفع الضغط الداخلي والخارجي الرئيس فؤاد معصوم إلى تكليف حيدر العبادي القادم من صفوف تكتل المالكي بتشكيل الحكومة، الأمر الذي لم يقبل به الأخير وأصر على رفضه إلى أن استسلم للأمر الواقع حيث تم منحه منصب نائب رئيس الجمهورية بامتيازاته وحصانته من الملاحقات القضائية. وبعد مرور عام على تنحي المالكي، بيد أن إرثه لا زال يسيطر على العراق ويطبع المشهد سياسياً وأمنياً واقتصادياً، كما أن الرجل لم يكف عن كيل الاتهامات لدول مجلس التعاون الخليجي محاولاً عرقلة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، بين بغداد ودول الجوار العربي، وكان آخرها قبل نحو أسبوع حين طالب بوضع المملكة العربية السعودية تحت الوصاية الدولية، ما يضع رئيس الوزراء حيدر العبادي أمام تحديات هائلة للتخلص من التركة التي ورثها عن المالكي. وأخيرا؛ إذا ما أراد العبادي التخلص من تركة المالكي الثقيلة، لابد عليه من تحقيق المصالحة الوطنية العراقية التي طالما تعنت رئيس الوزراء السابق في إنجازها لا بل إنه وضع العصي في طريقها دوماً، وأولى خطوات المصالحة تبدأ في احتضان العشائر السنية التي اتهمت دوماً بالولاء للنظام السابق ودعم التطرف، غير أن التضحيات التي قدمتها خلال قتالها تنظيم داعش بددت تلك الصورة عنها، كما أن ملفات الفساد المليارية سيما تلك المتعلقة بصفقات السلاح لا بد أن تحال إلى القضاء لينطق بالكلمة الفصل ويشعر الشعب بأن زمن المحاباة والتستر على جرائم المال العام ولى بلا رجعة، فضلاً عن تحسين الخدمات المتردية في بلد نفطي تغيب التنمية عنه منذ عشرات السنين. رابط الخبر بصحيفة الوئام: تحليل إخباري .. إرث المالكي يهيمن على #العراق بعد عام من تنحيه