منذ 70 عاما ظهر للوجود مهرجان صيفي نمساوي خجول باسم «مهرجان بريغنز» وبالتحديد في عام 1946. بخطى حثيثة بدأ ذلك المهرجان بمجهودات بضعة فنانين من أبناء المدينة كان هدفهم الأساسي بث روح إعادة البناء وجمع الشتات الفني الثقافي بعد الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية لأوروبا عموما، وللنمسا بوجه خاص، بسبب اتهامات لا تزال محل جدال وتساؤلات تطرح السؤال: «هل النمسا ضحية للنظام النازي أم مشارك أصيل؟». بريغنز هي عاصمة إقليم فورالبرغ أقصى غرب النمسا، وكعاصمة إقليمية لا تنافس بريغنز العاصمة فيينا بكل صولجانها وعالميتها فحسب، بل تتنافس وعواصم إقليمية أخرى أهمها جارتها اللدود سالزبورغ التي تحتفل هذه الأيام بمهرجانها الثقافي الصيفي. ورغم افتقار بريغنز لابن مثل الموسيقار النمساوي الأشهر موتزارت الذي يجلب إرثه لمدينته سالزبورغ، ملايين السياح سنويا، فإن بريغنز بدورها ليست هينة، لكن كما يبدو فإن الشهرة حظوظ. تتميز بريغنز بجمال طبيعي وتضاريس متنوعة تسعى لاستغلالها وتحسين توجيهها كمقومات طبيعية استراتيجية تضمن لها موقعا سياحيا ضمن الخريطة النمساوية السياحية، وما أثراها من خريطة. عموما يعتبر كرنفال بريغنز الثقافي أشهر فعالياتها السنوية، وفي إطار هذا المهرجان الذي يقوم أساسا على برامج ثقافية فنية وعروض موسيقية وراقصة ومسرحية وأوبرالية، يقف مسرح بريغنز العائم كركيزة أو «أيقونة» لا مثيل لها عالميا، فهو أكبر مسرح عائم على الإطلاق. تم تشييد المسرح العائم داخل مياه بحيرة كونستانس الممتدة عبر النمسا وألمانيا وسويسرا، وذاك سبب بهاء هذه البحيرة التي يختلف محيطها وتتنوع أجواؤها باختلاف الواجهة التي تطل عليها، جامعة الدول الأوروبية الثلاث برباط اللغة الألمانية. بدأ كرنفال بريغنز في الأسبوع الأخير من يوليو (تموز) ويستمر حتى الأسبوع الأخير من أغسطس (آب)، وفيما تزيد عروضه على 80 عرضا تحول شوارع المدينة وأزقتها لمسرح عريض يمتع مختلف الأعمار والأذواق، يظل العرض الرئيسي هو ما يتم تقديمه على خشبة المسرح العائم الذي يزداد ألقا بالاعتماد على البحيرة من حوله وكأنها جزء من خشبته، فيما يجلس الزوار في الهواء الطلق قبالة الخشبة. هذا العام، يقدم المسرح العائم أوبرا «توراندورت» آخر أعمال بوتشيني، التي تم إكمالها بعد وفاته، وتدور حبكتها أحيانا حول أميرة فارسية وأحيانا كأميرة آسيوية، مرات من اليابان ومرات من الصين. هذه المرة قدمتها المخرجة النمساوية إليزابيث سودوتكا، كأميرة صينية، وهكذا تم تصميم الديكور بما في ذلك مجسد لسور الصين العظيم. وكعادة معظم المخرجين ممن يتم اختيارهم لعروض مهرجان بريغنز، ولمزيد من الإبداع والتجديد (التحديث) لا يتم إخراج الأوبرا المختارة وتقديمها وفق ما رسمه المؤلف تماما، بل تؤخذ الفكرة ومن ثم تبلور بصورة قد لا يتوقعها المشاهد. نجحت المخرجة وفريق الماكياج في رسم الملامح الآسيوية الصينية بطريقة مذهلة على الممثلين والكومبارس وكل الفريق العامل، ناهيك ببناء 3 مجسمات من الـ«دراغون» اكتمل العمل فيها منذ يناير (كانون الثاني) الماضي وظلت بمثابة «شاهد» أو إعلان للعرض الصيفي. وهذه ميزة من مميزات المهرجان الذي يخطو كل خطواته بجدية ليست «محنطة وجامدة» وإنما جدية لازمة لإنجاح المهرجان الذي يحج إليه سنويا زبائن دائمون وآخرون جدد تجذبهم السمعة التي أصبح يتمتع بها، فيصلون بريغنز بحثا عن مزاوجة ومصاهرة غير مسبوقة بين الفن والطبيعة والثراء، في أجواء تاريخية لا تخلو من روح العصر. منذ دورته الأولى اعتمد مهرجان بريغنز على شعائر «الانفتاح والتسامح والتعايش وكرامة الإنسان»، وهذا ما حققه أوروبيا بانفتاحه على دول الاتحاد الأوروبي، والاستعانة بالمخرجين والفنانين وحتى الحضور والزوار، والغلبة لدول الجوار التي لو خاضت مياه البحيرة لوصلت من ألمانيا وسويسرا. في سياق شعارات المهرجان وركائزه، وضمن كلمته الافتتاحية، حث الرئيس النمساوي، هاينز فيشر، جماهير بريغنز وزوار المهرجان على أن يتسع هدف المهرجان لإشاعة فضائل التسامح والانفتاح والحفاظ على كرامة الإنسان لتتمدد وتتسع حتى تشمل «اللاجئين» من سوريا والعراق والصومال وغيرهم ممن تحاول الحكومة النمساوية استضافتهم. الرئيس النمساوي، بالطبع، لم يتحدث مرتجلا معبرا عن خاطرة خطرت له فجأة ما إن أمسك المايكروفون، بل تحدث حديثا تم إعداده وترتيبه سلفا، بقصد انتهاز هدف المهرجان الفخم الثري واسع الحضور، لإرسال رسالة لمن يعترضون «جملة وتفصيلا»، رافضين أن تفتح النمسا أبوابها لاستقبال لاجئين بحجة أن دولا تجاور النمسا ترفض اقتسام حصص اللجوء التي يحددها الاتحاد الأوروبي، وأنها تقفل أبوابها، مما جعل نمساويين يتساءلون، بمن في ذلك مسؤولون وسياسيون ناهيك بمواطنين: «لماذا نحن وليس الآخرون؟». ومما يزيد حدة المواجهة أن النمسا أصبحت تواجه وبقوة ظاهرة جديدة تتمثل في وصول أعداد غفيرة يتم تهربها من الأطفال القصر، بفكرة أن السلطات تعز عليها إعادتهم. مما يجدر ذكره أن الحضور ممن استوعبهم المسرح العائم ببريغنز ليلة الافتتاح وصل عددهم إلى 7 آلاف مشاهد، من بينهم حكام مختلف الأقاليم النمساوية التسعة وكبار المسؤولين من الاتحاد الأوروبي.