ذهب المخيال الإنساني في إنتاجه جملة الأجناس الإبداعية عبر تاريخه الطويل، إلى الاشتغال على رفع ذائقة الحواس الإنسانية، وتحقيق المتعة الجمالية لكل واحدة منها، فكان الغناء، والشعر، والرسم، والرقص، والتمثيل، والنحت، وهذا ما لم تستطع البشرية الفكاك منه خلال مسيرتها، حيث بقيت رهينة اللمس، والاستماع، والنظر، ولم تصل إلى مسافة قريبة تمكنها من تلمس الجمالية روحياً، أو قلبياً، بصيغة تأملية خارجة عن القدرة المباشرة للتواصل الإنساني. يبدو هذا مغرقاً في التجريد وموغلاً في الذهنية، إلا أنه في الوقت نفسه يؤكد واحدة من القضايا التي لم ينتهِ النقاش حولها، وهي أن العمل الإبداعي قبل أي شيء هو رسالة، تحتاج إلى وسيط، ومرسل، ومستقبل لتحقق جدواها، فلا يمكن لها أن تخرج عن أدوات الاستقبال المحصورة في الحواس، والمستندة إلى قدرتها على تشرب الفعل لتوصيل الشعور وتحقيق الأثر الخفي في النفس، والقلب، والعقل. يقود هذا إلى دراسة تاريخ وواقع المنتج الإبداعي الذي قدمته البشرية، إذ يظهر تساؤل دقيق لا يمكن تجاوز البحث فيه عند الحديث عن علاقة المنتج الإبداعي بالآلية التي يحقق فيها شرطه، وهو: أيُّ تلك الحواس كانت مركز اشتغال المبدعين، وأي الأجناس الإبداعية كانت أكثر قدرة على توصيل جمالياتها؟ للإجابة عن هذا التساؤل يحتاج المتابع والقارئ العودة إلى تاريخ الفعل الإبداعي بكل أشكاله، رواية، وشعراً، وصورة، ولوحة، وموسيقى، وغناء، وغيرها من الأشكال الإبداعية، إذ تنكشف جزئية لافتة في ذلك البحث، يمكن تكثيفها بالقول: إن الفعل البصري هو أكثر العناصر التي اشتغل عليها المبدعون، أو بصورة أخرى فإنه يمكننا القول إن الإبداع الإنساني تأسس على الجمالية البصرية قبل أي شيء آخر. قد يبدو هذا مغالياً في ظاهره، أو مجحفاً إلى حد ما، فيتساءل القارئ، وماذا عن مادة الإبداع المسموعة، والمحسوسة، والمقروءة؟ لكن يبدو ذلك دقيقاً إلى درجة كبير عند التوقف ملياً عند كل تلك الأجناس التي تبدو مسموعة، أو مقروءة، أو محسوسة، أو غيرها، إذ لا يبدو فعل القراءة في عمليته الأولى سوى فعل بصري، ثم إن النص المكتوب في كل اشتغالاته يحاول جاهداً رسم صورة بصرية في ذهن القارئ، وقبل ذلك كله، لا يوجد نص مكتوب خارج عن المرجعية البصرية في جذوره. الأمر ذاته ينطبق على الفعل الإبداعي المسموع، فكل محاولات الموسيقيين في إنتاج موسيقى خالدة، تجلت في قدرتهم على استحضار مشهد بصري في ذهن المتلقي وبناءً عليه تحقيق الشعور والحالة الجمالية التي يعيشها المستمع، ذلك إضافة إلى أن كل أشكال الإيقاع واللحن في الكون جاءت إثر حركة فيزيائية لشيء مرئي وتم العمل عليها جمالياً لتخرج في إطار إبداعي موسيقي. بمعنى آخر تتجلى فكرة الإيقاع الأولى للفعل الإنساني على الأرض عبر المشي، وفي الركض، فلا يمكن للإنسان الانفكاك من الإيقاع الواحد في مشيته وفي حركته، وفي ذلك يتشكل الأساس الأول لفعل الموسيقى في عمقها الجمالي، وما الصوت في تلك الحالة سوى أثر لحركة شكل بصري موجود بصيغته المادية. في ظل ذلك لا يبدو التعامل مع أي فعل إبداعي، سوى تحقيق للجمالية البصرية، فالشواهد على ذلك لا حصر لها عالمياً، وعربياً، ومحلياً، إذ تروي الحكاية في ألف ليلة وليلة قصة التاجر مع العفريت، ما نصه: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجر من التجار كثير المال والمعاملات في البلاد قد ركب يوماً وخرج يطالب في بعض البلاد فاشتد عليه الحر فجلس تحت شجرة وحط يده في خرجه وأكل كسرة كانت معه وتمرة فلما فرغ من أكل التمرة رمى النواة وإذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف فدنا من ذلك التاجر وقال له: قم حتى أقتلك مثل ما قتلت ولدي فقال له التاجر: كيف قتلت ولدك قال له: لما أكلت التمرة ورميت نواتها جاءت النواة في صدر ولدي فقضي عليه ومات من ساعته. لا يشكل النص في هذه الحكاية سوى امتثال المادة الإبداعية إلى الفعل البصري بكل أشكاله، الصامتة منها، والقائم على الحركة، فحين يحكي عن الحمار، والتاجر، والبلاد، يقدم فعلاً بصرياً جامداً، وحين يسرّد كيف رمى نواة التمر، وكيف خرج المارد، يتحول النص إلى فعل بصري متحرك. الأمر ذاته يجري في قصيدة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا قدماك حيث يقول: حين لا أستطيع أن أنظر إلى وجهك أنظر إلى قدميكِ قدماكِ من العظم المعقوف قدماكِ الصغيرتان الصلبتان. إني أعرف أنهما يدعمانك وأن ثقلكِ العذب يقوم عليهما. الفعل البصري في نص نيرودا على الرغم من انغماسه في الحالة الجمالية، إلا أنه يحول الصورة إلى رمز، مشتغلاً على جملة الصور المتلاحقة التي يكونها القارئ لنصه ودلالة كل صورة فيه، فتتجلى سطوة الصورة في ذلك إذ يقول: قدماك الصغيرتان الصلبتان، ويقول قدماكِ من العظم المعقوف، وكأنه يضع أمام القارئ صوراً فوتوغرافية لقدمي امرأة جميلة. حالة لا يمكن إلا تلمس جمالياتها بصرياً بروح مغايرة، تبدو فيها الصورة هي سيدة الفعل الإبداعي وقوامه، والقوة التي لا يمكن أن يكون الإبداع من دونها في أي شكل كان، ومهما حاول المبدع التخلص والفكاك منها. فما هي جمالية نص محمود دوريش في قصيدته قطار الساعة الواحدة من دون هذه السلطة القائمة للصورة، إذ يقول: رجل وامرأة يفترقان ينفضان الورد عن قلبيهما، ينكسران. يخرج الظلّ من الظلّ يصيران ثلاثة: رجلا وامرأة و الوقت... لا يأتي القطار فيعودان إلى المقهى يقولان كلاما آخرا، ينسجمان ويحبّان بزوغ الفجر من أوتار جيتار ولا يفترقان. أي نص يمكن أن يحقق تلك المشهدية والحركة في بنائه من دون الفعل البصري الذي يستند اليه في رسم فضاء نصه، فدرويش بلا شك عائد -في حالة خارجة عن الوعي إلى عشرات ومئات المشاهد البصرية التي شاهدها أو عايشها ليرسم ملامح البحر وخطوات المرأة والرجل وشكل ظلالهم، فكيف له أن يقول يخرج الظل من الظل من دون تلك العين الحاذقة التي ترى حتى شكل الهواء وتترك للمخيال أن يكشف الجمالي بخفة ومهارة. في الشكل الإبداعي المسموع يمكن القول إن التراث والتاريخ الموسيقي للخليج العربي يزخران بالنماذج التي تؤكد سطوة الفعل البصري، وقوة الصورة، إذ امتثل الغناء والموسيقى إلى حركة البحر، وانسياب الكثبان الرملية، وحتى إيقاع ركض الخيل، ومشي الجمل، كل ذلك أنتج الكثير من القوالب والأصناف الموسيقية الخاصة بالخليج العربي، فظهر ما يعرف بالسمرة، والبحري، والليوا، والخدري، إضافة إلى الإيقاع الحجازي، والحضرمي، وغيرها من الأصناف والأنواع. يتجلى ذلك الاشتغال في موسيقى البحري، والليوا، وفيها لا يتمظهر الفعل البصري في جذر الموسيقى وأصلها، وإنما في شكلها الظاهر، وفي الرقص المصاحب لها، إذ بعض الرقصات تشبه حركة رأس العقاب، والأخرى جري الفرس، إضافة إلى حركة الموج والامتثال لإيقاعه. لذلك يمكن القول إن الإبداع في جذره الأصيل، ما هو إلا اشتغال على فكرة الرؤية وتتبع تحولات الصورة بصيغتها المتحركة، والجامدة.