بقلم - جهاد فاضل: يعرض مؤلف أحمد رامي شاعر الحب الدافئ لسيرة أحمد رامي مع النقد والنقاد. وهي سيرة طبيعية إذ لا يمكن لشاعر، أي شاعر، أن ينجو من النقاد، سلباً أو إيجاباً. فالناقد موجود وجود الشاعر، والنقد عملية في غاية الأهمية في سيرة الأدب وإن لم يقم النقد بمهمته على الوجه الأمثل، كان هناك نقص في العملية الأدبية. ومن الطبيعي لشاعر مثل رامي كان له إسهامه الكبير في مسيرة الأدب والفن في مصر، أن يكون له سيرة نقدية، ليتناوله النقاد بالمدح حينا وبالقدح حينا آخر. وقد بدأ رامي أول دواوينه في عام 1917، وكان شعره علامة جديدة في الشعر في تلك الآونة، وقد لقي عقب نشر هذا الديوان ما يلقاه الشاعر عادة من مدح وقدح. من النقاد من رأى في هذا الديوان صورة جديدة لشعر الوجدان. ولكن هناك من قال إن رامي قليل الرواية للشعر، كثير القراءة له، لا يتعمد بقراءته شاعراً بعينه، بل هو كالنحلة يتنقل من زهرة إلى زهرة، وهو لا يقرأ ليتحدّى، بل هو يستمدّ المعاني من طبعه، وتتداعى إليه من الطبيعة صور شتى ينتفع بها في قصيدته، وعندما سأله ناقد صديق له يوما أن يكتب في موضوع اقترحه عليه، كان جوابه أنه لا يستطيع، فهو لا ينظم إلا ما تهتز له نفسه، وهو لا يستطيع، على الخصوص، القول إذا حمل نفسه على غير ذلك. وعلى الرغم من هذا، فإن رامي قال الشعر بتلقائية أي بلا تكلف، وقد ترك نفسه على سجيتها حين ينظم. لم يهتم أبداً بالمذاهب والتيارات الشعرية التي كانت قد بدأت في زمانه.. فإذا حاولنا أن نتعرف إلى آراء بعض الشعراء والنقاد في شعره، صادفنا أول ما صادفنا الشاعر الكبير حافظ إبراهيم الذي كان من رأيه أن رامي كثير الاعتماد على نفسه في شعره فلا يتسلق على كلام غيره، وأثر ذلك بيّن في شعره، وقد نحا في غزله ووصفه منحى عصرياً بحتا. كانت شهادة حافظ في شعر رامي درعا واقياً من واحد من شوامخ شعراء العصر، ودليلاً على أن شعره قد وصل إلى مرتقى يصح الاطمئنان إليه. وهذه الاستقلالية التي ذكرها حافظ من أن رامي لا ينتحل شيئا من معاني الغربيين، على كثرة إدمانه النظر في أشعارهم، يتناولها ناقد السفور في عدة مقالات، يقول المازني: هو كثير الرواية للشعر، جيد الحفظ، عبقري الذهن حاضره. ولهذا نراه ينحى على أهل السهو إنحاء شديداً. لم يكن استقلال رامي، وعدم التسلق على كلام الآخرين، القضية الوحيدة التي أجمع عليها نقاده. بل إن هناك قضية أخرى تتمثل في حسن ذوقه وسماحته الطفلية، ومعالجته لقضايا الحب بروح وديعة هادئة فيها طهارة وإنسانية شفيفة وصوفية عذبة. ورأى الناقد عثمان حلمي أن شعر رامي أول شعر في عصرنا ينبهنا إلى شعر الأندلس: فهو شعر يهتم قائله بالموسيقى ولكنه ليس بالشعر العميق، وهذا هو على العموم الشعر الأندلسي.. ويؤيد عويضة رأي هذا الناقد إذ يقول: إنه لم يقع في شعر رامي إلا نادراً على معنى يستجمع القارئ عقله لإدراكه، فمعانيه سهلة وفي متناول قارئه أياً كان مستوى قارئه الفكري والثقافي. هو شاعر يفرض مودته قارئه نظراً لمجالات كثيرة في شعره، ولكن هذا الشعر ليس عميق الغور، أو عميق الفكر يأخذ القارئ إلى عوالم عميقة، ويبدو أن هذا هو السبب الذي جعل حافظ إبراهيم يصفه بأن المرء يقرأ البيت من شعره، فيشيع الطرب في نفسه قبل أن يعلم مأتاه، وقبل أن يتطلع العقل إلى هم معانيه!. وبنظر الباحث، فإن رجاء النقاش ساهم في الإزراء على رامي. فقد وصفه بأنه صاحب آراء مبعثرة في كان الخيام (الذي نقله رامي إلى العربية) صاحب فلسفة واضحة يتحدث عن مشكلة الإنسان الكبرى في هذه الحياة ويضع لها حلاً هو أن يذوب الإنسان في جمال الكون، ويتسامح ويتصوف، ويتخلى عن الطموح الزائف، حتى يستمتع بالحياة على قدر الإمكان، ويهرب من فزع الموت على قدر الإمكان أيضاً. يرى الباحث أن المقارنة بين رامي والخيام، على هذا الوجه، مقارنة ظالمة، إذ أن رامي لم يفكر أن يجعل من نفسه صاحب فلسفة ذات أبعاد متميزة، ولكنه شاعر يعبر عما ينعكس على نفسه في تلقائية بسيطة ثم يمضي في سبيله. فهو لم يشغل نفسه بالأدب ومذاهبه ومدارسه بلغة الفلسفة ومشاربها ونظرياتها، ولم يصنف نفسه تحت أي عنوان. إنه فقط يقول الشعر تنفيساً عن شيء يحسّه بين جوانحه تجاه أي من موضوعات الحياة، ثم يلقي قلمه ويمضي، وليس لزاماً على كل من ترجم عدداً من رباعيات الخيام أن يرسم فيها فلسفة الخيام محددة الأبعاد متميزة الملامح، وليس لزاماً على كل من اطلع على فلسفة فيلسوف أن يصبح ذا فكر فلسفي.. أسلوب رامي خليط من الفرح والبكاء، فهو تارة يطير مع الطيور ويحلق ويهبط إلى البحر، وهو تارة يسهد ويدمع ويشكو ويبكي مع الليل، ويذهب إلى حديقة ذكرياته فتستيقظ الأشجار والأغصان والطيور لتشهد على حبه وتقول كلمتها فيما طوى عليه الزمان من الكتمان. وألفاظه سهلة نابضة تتفجر حياة وتتوثب في طلاقة، وهو يرى أن الشعر أداء نفسي منغم يتسم بجودة التصوير وصدقه وحسن التعبير. وهذا الأداء النفسي يستوعب المحسوسات ويعبّر عنها تعبيراً جميلاً. هذه المحسوسات قد تكون إدراكاً واعياً لكل ما في الطبيعة والكون والوجدان، وقد تكون إدراكا مصروفا إلى ناحية من الحسّ لا تتعداها إلى غيرها كالحب والغزل والافتتان بالإزهار والرياحين. والرؤية الفنية للشعر عنده، رؤية وجدانية غنائية كما يعكس شعره وهي نفس الرؤية التي تشيع عند شعراء الرومانسية، إذ يهربون إلى مجالي الطبيعة يصورونها ويصفونها بصفات النبالة والطهر، أو يعكسون عليها نفوسهم بما يموج في عوالمها من أضواء وظلال. وربما كانت قصيدته: سبيل المجد هي خير قصيدة لاستنباط هذه الأفكار من ثناياها. فهو حين يحدثنا عن الشاعر الخالد يصفه بأنه: يستمد المعنى الجليل من الدنيا تراءت بكل المجاليِ ويحاكي صوت الطبيعة في ألحانها من شدو ومن أعوالِ في صياح الكروان أو نعبة البوم على دارس من الأطلالِ وحفيف الغصون أو هبة الريح تدوي في البيد والأدغالِ وخرير الغدير أو ثورة البحر تسامت أمواجه كالجبالِ أما عن رؤيته النظرية للشعر، فهو يؤمن بالنظرة الرومانسية، فالشعر عنده حقيقة داخلية يُلقى في روع الشاعر، ويراه نجوى القلب التي لا يملك إلا ترجمتها. الشاعر عنده صوت من أصوات الطبيعة. هو يقول في قصيدته سالفة الذكر: صوته من فم الطبيعة ينساب انسياب الحياة في الأوصالِ كيف تغني أنغامه وهي في الكون نشيد من لحنه السيَّال وقد ذكر مرة: أنا أردد صوت الطبيعة شعراً. أنا ابن الخواطر، يعرض لي المعنى الجديد فأنظم فيه. لقد خلقت لأرسل الأبيات نجوى لنفسي وسمرا لأحبائي وقرائي . هناك إذن لحظة إلهام أو لحظة توهج ينبثق عندها الشعر على لسانه، هذه اللحظة تجود بها بنات الشعر أو ملاكه الحارس كما يحلو له أن يسمّيه، إذ يرفض أن يسمّيه شيطانا. لذلك نراه يكتب قصيدة كاملة بعنوان بنات الشعر يعاتب فيها بنات شعره على تثاقلهن عنه إذ يكاد ينصرم العام فلا يزرنه إلا مرة واحدة: بنات الشعر ما ألهاك عني وماذا نفّر الأشعار مني لقد عزّت على فكري القوافي وكنت بهن مطّرد التغنّي ومنها: فكوني يا بنات الشعر أهلي وأشياعي لدى البلوى وركني وغنِ من أساك وألهميني فبينكِ في الهوى عهد وبيني وحين تتمادى هؤلاء البنات في مطالعه ويشعر بالأنغام سجينة في روحه وهو لا يقوى على التعبير حتى ترفع له بنات الشعر الرتاج عن نفسه لتتدفق اللحظة الملهمة فتحيل الأنغام السجينة شعراً. أين وحي الخيال والوجدان يستقي منه خاطري وبيانيِ أسكوت والكون جمّ المعان وسكون والنفس في ثورانِ هذه نضرة الطبيعة تغترّ عن الحسن في مُحيَّا الزمانِ وحرام في ليلة البدر ألا تسمع الأذن سجعة الكروان ِ لست أدري أأستجم لخطب الدهر أم أنطوي على أحزانيِ يا بنات الشعر أعينيني وغنيني وهاتي من شيقات المعانيِ لا أريد الرحيل عن هذه الدنيا ولم تمتلئ ببث جنانيِ إن صعبا على المزاهر تغني لا تَناغَى على أكف القيانِ إن رامي، كما نستنتجه من كتاب شاعر الحب الدافئ ليس واحداً من كبار الشعراء العرب في القرن العشرين، وإنما هو شاعر متوسط القيمة الشعرية يرتبط اسمه بحركة الشعر وتطوره. لا يُذكر اسم رامي عند التأريخ للشعر العربي في ذاك القرن الشعري بامتياز، وإنما هو شاعر متوسط القيمة الشعرية يرتبط اسمه بحركة الغناء العربي، بأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومطربين آخرين كثيرين أكثر مما يرتبط بحركة الشعر وتطوره. لا يُذكر اسم رامي منذ التأريخ للشعر العربي في ذاك القرن الشعري بامتياز، كأن رامي قد فصل من نادي الشعر لكي يلتحق بنادي الغناء ويكون رسول عبقر إلى النادي الأخير نظراً لرقته وعذوبة كلماته وصوره. شاعر رقيق زوّد أم كلثوم وعبدالوهاب بما لايقل عن ثلاثمائة نص شعري بالعامية وبالفصحى. ونظلمه حين نقارنه بأحمد شوقي أو حافظ أو الجواهري أو الأخطل الصغير أو بدوي الجبل وسائر هؤلاء الشعراء الكبار. ولكن هؤلاء الشعراء قد يحسدونه على شهرته وذيوع اسمه في الصحافة والإعلام على مدى نصف قرن ونيّف. وأشعار هؤلاء العمالقة سجينة في الدواوين ورفوف المكتبات، في حين أن أشعاره على شفاه الملايين في شرق العالم العربي ومغربه. وتدل الحكاية التالية لواحدة من أغانيه أو أشعاره على ما ذهبنا إليه من كون رامي موهوباً لحركة الغناء العربي بالدرجة الأولى، ومواكباً لهذه الحركة يمدّها على الدوام بنصوص رقيقة عذبة سرعان ما تأخذ طريقها إلى الانتشار. يقول الباحث: إن إحدى قصائد رامي، واسمها أماني في الأصل، تعرضت لتعديل كبير، تغير عنوانها من أماني إلى أغار الغيرة بعد التعديل، أصبحت هي المحور الرئيسي الذي تدور حوله المعاني في كل مقطع من مقاطع القصيدة بعد أن كانت تتحدث في صورتها الأولى عن أمان عطاش حائرات. يتساءل الشاعر في نهايتها إن كانت سترى النور أم تجف لتموت. متى وقعت التعديلات؟ عندما أُعجبت أم كلثوم ببعض مقاطع أماني فطلبت من رامي أن يعدّها لتُغَنّى، ففعل. أعاد صياغتها ورتّب مقاطعها ومعانيها حتى استحالت خلقا آخر يدور على معنى الغيرة، ولم تعد أصداء المعاني القديمة تتردد إلا في مقاطع قليلة. كان رامي قد أصبح بمرور الزمن خبيراً غنائياً، وقد وضع هذا الخبير تجربته وعلمه وفنه في خدمة كوكب الشرق بالدرجة الأولى. هذه هي أماني الأولى: أغار من نسمِة الجنوبِ على محياك يا حبيبي وأحسد الشمس في ضحاها وأحسد الشمس في الغروبِ وأحسد الطير حين يشدو على ميوس النقا الرطيبِ فقد ترى فيهما جمالاً يلهيك عني وعن نسيبيِ فليتني منظر بهيج تطيل لي نظرة الرقيبِ وليتني طائر طليق أشدو بأنغام عندليبِ أظل أسقيك في نشيدي سلافة الروح والقلوبِ وأنت تصغي إلى الأغاني بمسمع الشاعر الطروب وليتك الطيف في منامي وليتك النور في هبوبي وليت أنا نحيا جميعاً وربعنا ليس بالقريبِ أريك من لوعتي وحبي عطف غريب على غريبٍ وليتنا درّتان نثوي بالبحر في جوفه الرغيبِ وليتنا طائران نلهو بالروض في سدحه الخصيبِ وليتنا زهرتان نهفو على شفا جدول لعوب تميلني نحوك الخزامى إذا سرت ساعة المغيبِ وليتنا جدولان نجري ما بين زهر وبين طيبِ فيلتقي ماؤك المصفى بمائك الرائق الشنيبِ هذي تعلاّتي اللواتي أريدها العمر يا حبيبيِ فهل أراها محققات على مدى دهري الغضوبِ أم هل أرى برقها خلوياً كالآل في المهيبة الجديبِ أما أغار فقد طرأ عليها تعديل جوهري، وقد غنتها أم كلثوم وكانت واحدة من أجمل ما غنت، وهذا هو نصها: أغار من نسمة الجنوبِ على محياك يا حبيبي وأحسد الشمس في ضحاها وأحسد الشمس في الغروبِ وأحسد الطير حين يشدو على ذرى غصنه الرطيبِ فقد ترى فيها جمالاً يروق عينيك يا حبيبيِ يا ليتني منظر بديع تطيل لي نظرة الرقيبِ وليتني طائر شجي أشدو بأنغام عندليبِ أظل أسقيك من غنائي سلافة الروح والقلوبِ وذاك أني أراك ترنو للشمس في بهيجة المغيبِ وتعشق الطير حين يشدو على ذرى الغصن يا حبيبيِ وأني من هيام قلبي وشدة الوجد واللهيبِ أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبيِ وأحسد الزهر حين يهفو على شفا جدول لعوبِ وأحسد الزهر حين يجري على بساط الجنى الخصيبِ فقد ترى فيهما جمالاً يروق عينيك يا حبيبيِ يا ليتني جدول تهادي ما بين زهر وبين طيبِ وليتني زهرة تساقت مع الندى قبلة الحبيبِ باتت تناجي الصباح حتى أطل في برده القشيبِ وذاك أني أراك ترنو للزهر في غصنه الرطيبِ وتعشق النهر حين يجري مرجع اللحن والضروبِ يا ليتنا طائران نلهو بالروض في سرحه الخصيبِ وليتنا زهرتان تهفو على شفا جدول لعوبِ تميلني نحوك الخزامى إذا سرت ساعة المغيبِ وذاك أني أراك ترنو للطير في جوه الرحيبِ وأن قلبي يذوب شوقاً لساعة القرب يا حبيبيِ ما فعله رامي في هذا الشأن قد لا يفعله سواه من الشعراء الذين يرفضون إعادة النظر في قصيدة لهم بناءً لطلب مغنية، أيا كانت هذه المغنية. ولا يفعله على التأكيد شعراء كثيرون يرون أن المهم عندهم إرضاء القيم لا إرضاء أي أمر آخر. ومن هؤلاء الشعراء الذين رفضوا تغيير كلمة واحدة في قصيدة لهم واستبدالها بكلمة أخرى الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل الذي طلبت منه أم كلثوم منه مرة أن يبدل كلمة شقراء بكلمة سمراء في قصيدة له لتغنيها. رفض الشاعر، وألحّت أم كلثوم في طلبها فأصر الشاعر على موقفه: القصيدة تُغنّى كما هي أو لا تغنى ولا تبديل لكلمة واحدة فيها. وانتهى الأمر برفض الشاعر وغضب المغنية. أحمد رامي من طينة أخرى غير طينة بدوي الجبل. كان رامي شاعر أم كلثوم وعبد الوهاب والغناء العربي في زمانه. شاعر أغانٍ في الأعم الأغلب، في حين كان بدوي الجبل شاعر العرب وشاعر الغزل والوطنية في طبقاتها العليا. لكل شاعر طريقه الخاص وغاياته الخاصة في الشعر. لم يكن باستطاعة أحد أن يثني بدوي ويعدل عن قراره بعدم تعديل كلمة واحدة في قصيدته رغم إغراءات التعديل. ولم يكن رامي مستعداً أبداً لرفض طلب الست في التعديل الواسع الذي طلبته منه من أجل غناء القصيدة. ولكل من الشاعَرين بالطبع أسبابه الموجبة في قراره.