لا لم يموتوا، هم باقون، دماؤهم الزكية روت الأرض التي صعدت فيها أرواحهم إلى بارئها ستظل دوماً تروي صمتاً، قصص شجاعتهم، ستظل تتفاخر ببطولاتهم، وإقدامهم، وبأسهم، وبسالتهم، التي لم تخفها رصاصات غادرة، أو إرهاب أسود أطاحت ألغامه، وظلامية رؤاه، وأفكاره البغيضة، أجسادهم. شهداء الإمارات.. أبطال قدموا على كفوفهم حياتهم لنحيا نحن، هم رجال الوطن الذين شدّوا رحالهم إلى خالقهم، لكنهم ضمناً لم يرحلوا فالأسود لا تموت إن خفت زئيرها، وبليت أجسادها، شباب في ريعانهم ذهبوا للقاء الخالق الواحد الأحد، لكن آباءهم، وأبناءهم، وأشقاءهم الذين يمثلون الدولة، سيظلون يروون الكثير من الحكايات عن الذاهبين فقط أجساداً طاهرة، والقائمين أبداً في وجدان الوطن. واليوم ونحن نشيع شهيداً جديداً منهم، لينضم إلى سجل الأبرار في سبيل عزة الإمارات، ووحدتها، ومواقفها العروبية الأصيلة، نقول إن نبضه ونبضهم جميعهم الذين ختمت حياتهم بالشهادة، سيظل يخفق في عروق الوطن، وإن توقفت قلوبهم الطيبة عن النبض، فهم بيننا قائمون بتضحياتهم، ومناقبهم الأصيلة. وعنهم لن نذرف الدموع، فليس للبكاء من مكان بيننا، فالأبطال إن سقطوا غدراً، يحل الفرح موقع الحزن، لأنهم قالوا بدمائهم، وابتسامتهم التي ارتسمت على محياهم، والموت يظلهم بغمامته، إنهم ظلوا لرمقهم الأخير يذودون عن أرضهم، ومبادئها وقيمها ما تعتنقه، وتؤمن به من قناعات، ومواقف راسخة، وما تتخذه نهجاً لمسيرتها الشامخة، لذا ومخالفة للدارج في الموت من تكرار كلمات وجمل العزاء، وغلبة كلمات الحداد على الأقوال بتنوعها، نقول هنيئاً لكم أبطال الوطن بالشهادة النبيلة في سبيله، فقد كنتم وستظلون الذراع التي لم يلوها وجع، ولم يكسرها موت. الشهيد سالم خميس بالأمس البعيد وتحديداً عام 1971 استشهد البطل ابن الإمارات البار سالم سهيل خميس، الذي كان عسكرياً أول يحمل رقم 190 من شرطة رأس الخيمة، وقبل بضعة أيام من يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني، 1971 جاء موعد تغيير دورية الحراس العاملين في جزيرة طنب الكبرى، حيث تم تغيير كل الحراس باستثناء سالم سهيل، لأن أحد زملائه، رفض البقاء في الجزيرة، فبادر سالم سهيل بأن يحلّ محله، وبقي في الجزيرة يؤدي مهامه بصحبة زملائه الستة العسكريين. وفي فجر اليوم المشؤوم لاستشهاده، استيقظ سكان الجزيرة البسطاء، والذين لم يتجاوز عددهم 120 فرداً لأداء صلاة الفجر، على أصوات أزيز الطائرات العسكرية وسط الظلام الدامس، وارتفع صوت ضجيج أصوات السفن والزوارق البرمائية الحربية الإيرانية المدججة بأحدث الأسلحة، التي كانت تستعد لمواجهة ستة عسكريين إماراتيين فقط، وبعد لحظات رست السفن الإيرانية، بينما طائراتهم مستمرة في الحوم حول الجزيرة، وإخافة سكانها البسطاء الذين لم يشاهدوا في حياتهم تلك الآلات العسكرية من قبل، وحينها أدرك العسكريون الإماراتيون أنهم يتعرضون لغزو إيراني، فقاموا بإبلاغ شرطة رأس الخيمة عبر جهاز اللاسلكي، ثم وضعوا أنفسهم على أهبة الاستعداد، ينتظرون قدوم النجدة من رأس الخيمة، وقاتلوا تلك الآلة الإيرانية المدججة بالسلاح، ببنادق بسيطة من نوع أي فان. قبل أن تبدأ المعركة، قام الغزاة بإسقاط المنشورات على أهالي الجزيرة، تأمرهم بالاستسلام فوراً وعدم المقاومة، وأنهم منذ اليوم أصبحوا من رعايا الدولة الإيرانية، وهذا ما رفضه أهالي الجزيرة، وبمجرد اقتراب الغزاة من مركز شرطة الجزيرة بادر العسكريون الستة بإطلاق النار على الغزاة الذين ردوا هم بوابل من الرصاص الذي كان يخترق مبنى المركز، ثم أمر سالم سهيل زملاءه بالتجمع حول سارية علم رأس الخيمة، والدفاع والذود عنه والحرص على عدم إنزاله نهائياً من السارية، ثم نجح الفرس في تعطيل جهاز اللاسلكي، فازداد الأمر تعقيداً وإرباكاً على حراس الجزيرة، لكنهم استمروا في إطلاق النار على كل من يحاول من الغزاة اختراق مركز الشرطة، ثم هدأت المعركة قليلاً وطلب الغزاة التفاوض على استسلام الجنود الإماراتيين، ولكن سالم سهيل ردّ عليهم أن علم بلاده لن ينزل من ساريته، فكان الردّ الإيراني بوابل كثيف من الرصاص لمبنى الشرطة، انهمر كالمطر على جميع أجزاء المبنى، والجنود الإماراتيون يردّون عليهم، كل واحد من الستة اختار جانباً من جوانب المبنى لإطلاق النار على الفرس، واستمر الحال هكذا لمدة 8 ساعات، فاستعان حينها الفرس بجنود كوماندوز ومظليين لاقتحام المبنى، قُتل منهم أربعة على يد الجنود الإماراتيين، وكذلك قائد للإيرانيين برتبة جنرال، فرد الفرس بإطلاق قذائف زوارقهم الحربية، وأصيب الجنود الإماراتيون بالإنهاك، وجرح اثنان منهم بطلقات إيرانية، وعندما أدرك سالم سهيل أنهم خسروا المعركة وقف عند سارية العلم رافضاً نزول العلم، فأطلق عليه الفرس النيران التي نهشت جسده، واستسلم الخمسة الباقون.. الشهيد سيف غباش وجاء عام 1977 ليسقط سيف سعيد بن غباش المري الشهيد الثاني للدولة، وأول وزير دولة للشؤون الخارجية،الذي اغتالته رصاصات غاشمة أصابته خلال محاولة لاغتيال عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري آنذاك في مطار أبوظبي، والشهيد يمثل أنموذجاً لمواطن عبر مسيرة شاقة من الغربة ومتاعبها من أجل العلم، والمعرفة، وخدمة الوطن ورفعته، وكان من أوائل مؤسسي أركان وزارة الخارجية، ورافعي راية الإمارات ورسالتها إلى العالم أجمع. وكان الشهيد قد ولد عام 1932 في حي معيرض في إمارة رأس الخيمة، وعقب وفاة والده وهو في الثانية عشرة من عمره، ورحيل والدته عقب 3 أشهر من ذلك، عاش مع عمته في دبي لمدة 3 سنوات، وتوالت السنوات وهو ينهل من ينابيع العلم، حيث كان شغوفاً بالدراسة، والقراءة، وتعلم الإنجليزية، وأجادها تماماً، إلى حد أنه كان يقوم بالترجمة من العربية إلى الإنجليزية لبعض الباحثين الاجتماعيين الأجانب، وفي عام 1953 غادر البحرين إلى العراق، بعد تخرجه في الثانوية العامة، لدراسة الهندسة في جامعة بغداد، وتوالت رحلته الدراسية والمهنية ما بين العراق، ومصر، والنمسا، وألمانيا، وسويسرا، وإيطاليا، وباريس، والاتحاد السوفييتي، وهكذا. وبعد 20 عاماً من الغربة والترحال، وفي عام 1969 عاد ابن غباش إلى رأس الخيمة مسقط رأسه، ليخدم الدولة بعلمه، ويؤمن مستقبل أبنائه الثلاثة، وتوالت إنجازاته على صعد عدة، إلى أن كان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 1977 حينما كان يرافق عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري، وعند دخولهما الصالة الكبرى لمطار أبوظبي، وفي طريقهما إلى قاعة الشرف، انطلقت رصاصات كانت تستهدف خدام، لكنها أصابت ابن غباش في كتفه وبطنه ليرحل متأثراً بجراحه، تاركاً إرثاً يحسب له من المواقف الصلبة، والأدوار السامية والمسؤولة. الشهيد طارق الشحي ويأتي الشهيد الملازم أول طارق الشحي ليسجل بدمائه ملحمة بطولة جديدة، يذهب عقبها شهيداً باراً في حادث التفجير الإرهابي بمنطقة الدية في البحرين، حيث كان يعمل ضمن قوة أمواج الخليج في المملكة البحرينية الشقيقة، المنبثقة عن اتفاقية التعاون الأمني الخليجي المشترك، واستشهد في انفجار غادر، من جراء عبوة ناسفة استهدفته، واثنين من زملائه العاملين بالشرطة البحرينية، خلال أدائهم مهامهم الوطنية بحفظ الأمن، وامتاز الشهيد الشحي بسيرة وظيفية وشخصية عطرة، سواء بين زملائه أو ذويه، وعُرف عنه التزامه الصادق بمتطلبات الواجب ورفعة الأخلاق والشجاعة والإقدام في كل ما يوكل إليه من مهام، فيما كان الشهيد الشحي قام قبل رحيله بجولة في أرجاء الوطن مع أولاده وأهله، وكأنه يدرك أنها المرة الأخيرة في حياته التي يرى ملامح تقدم وطنه من أبوظبي إلى الفجيرة، وكأنه كان يودع بجولته إماراته، تاركاً ذكرى خالدة عن بطولته في الدفاع عن الشقيقة البحرين ضد قوى البغض والظلام. الشهيدان الزعابي والحمودي وها هما الشهيدان الطياران سيف خلف سيف الزعابي، وعبد الله علي الحمودي، اللذان سقطت بهما طائرة عسكرية أثناء تنفيذهما إحدى المهام التدريبية في مطار ألماظة العسكري، مع جمهورية مصر العربية الشقيقة، والشهيدان كانا قد اجتمعا سوياً في كلية خليفة الجوية، كما كانا جارين يقطنان إمارة الفجيرة ومدينة كلباء. والشهيد سيف الزعابي، 24 عاماً، من شباب منطقة خور كلباء بمدينة كلباء، متزوج منذ عام، ولديه طفلة عمرها 25 يوماً، شاء الله ألا يراها سوى في إجازته الأخيرة التي عاد فيها من مصر إلى وطنه، ليغادر وليدته شيخة قبل أيام من نيله شرف الشهادة بالتزامن مع عيد زواجه الأول، لتلقى الزوجة خبر استشهاده وهي في المستشفى لمتابعة حالة المولودة التي كانت محجوزة في العناية المركزة. والشهيد عشق الطيران منذ طفولته، وتمنى احترافه لينال شرف الدفاع عن وطنه، مثل أبيه وأشقائه الذين ينتمون جميعاً لصفوف القوات المسلحة. ووفقاً لحديث عمه عنه كان محبوباً من الجميع، وبشوشاً، يتسم بالهدوء والخلق الحسن، حريصاً على صلاته، ومجتهداً في عمله، ويتصف بحب المبادرة والإبداع والشجاعة. أما زميله الشهيد عبد الله علي سيف الحمودي، ابن منطقة صرم بالطويين التابعة لإمارة الفجيرة، 25 عاماً، فكان متزوجاً قبل وفاته منذ 30 شهراً، ولديه طفل وحيد يبلغ من العمر حينذاك 18 شهراً، وأيضاً كان ينتمي لعائلة جميع أفرادها جنود في القوات المسلحة. وكان وفقاً لرواية أكثر أصدقائه قرباً منه، زينة شباب المنطقة، وقدوتها ومثلها الأعلى لجميع أقرانه، واتسم بطيبة القلب، والذكاء والإقدام، محباً لوطنه يحلم بتقديم روحه فداءً لها. الشهيد عبدالعزيز الكعبي ومنذ أيام قليلة ودّع الحياة الملازم أول عبدالعزيز سرحان صالح الكعبي الذي استشهد أثناء تأديته واجبه الوطني ضمن القوات المشاركة في عملية إعادة الأمل للتحالف العربي، الذي تقوده المملكة العربية السعودية الشقيقة للوقوف إلى جانب الحكومة الشرعية في اليمن ودعمها. وعن الشهيد قال شقيقه صقر الكعبي: عبدالعزيز هو الأخ الأصغر بين أشقائه ال 6 الذكور، وكان أكثرنا حيوية، وقد تخرج في كلية زايد العسكرية الثانية، وكثيراً ما كان يتحدث عن رغبته في أن يكون ضمن القوات المسلحة الإماراتية، وذهب راغباً بذلك حباً للوطن ودفاعاً عنه. والشهيد من منطقة الفوعة بمدينة العين، لديه شقيقتان، و6 أشقاء ويبلغ من العمر 24 عاماً، كان آخر اتصال بيننا وبينه منذ يومين، سأل فيه عن حالنا واطمأن علينا وكذلك نحن سألنا عن أحواله وكان سعيداً جداً كما هو دوماً والابتسامة لا تفارقه.