وسط بحر متلاطم من التساؤلات التي يلامس البعض منها تخوم الاتهامات تدور علامات استفهام كبيرة حول تحديد موقع التيار الوطني الديمقراطي في معادلة العمل السياسي البحريني، ودوره المتوخى منه في التأثير على متغيراتها، دون إهمال ثوابتها. وقبل ركوب لجة هذا البحر المتلاطم، ربما من المستحسن إعادة التأكيد على بعض المنطلقات التي تحدد الإطار العام للإجابة على هذا التساؤل المركزي حول الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا التيار، بمختلف ألوانه الفكرية المتعددة المنابع، المتشعبة الاتجاهات، في عملية التغيير المطلوبة. أول تلك المنطلقات، أن التراجع النسبي الذي يعاني منه هذا التيار، ليس مجرد أزمة ذاتية محضة، بل هي محصلة تفاعل مجموعة من العوامل من بين الأهم فيها هو التاريخ الصدامي المتصاعد الذي سجله ذلك التيار مع السلطة على امتداد عقود من تاريخ البحرين السياسي، لا يبدأ بالخمسينات عندما انطلقت هيئة الاتحاد الوطني، ولم يتوقف حتى اليوم، رغم تصدر الإسلام السياسي، بمختلف ألوان أطيافه الساحة السياسية. كل ذلك أنهك قوى التيار، الذي لا يزال يلعق جراح سنوات ذلك الصدام، ويواصل مداواتها. تفاعل ذلك، على نحو سلبي، مع التراجع الذي عرفه نظراؤه على الصعيدين القومي العربي، والدولي في آن. ثاني تلك المنطلقات، وربما يكون الأهم بينها، هو الضمور التنظيمي النسبي الذي يئن تحت ضغوطه هذا التيار. والمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، عدم الخضوع لواقع هذا الانكماش الآني الذي يعاني منه هذا التيار، وانتعاش التيارات الأخرى. فالوقوع ضحية التراجع المنطلق من هواجس هذا الضمور، يجرد هذا التيار من أقوى أسلحته، ويأسره في نطاق رؤية في غاية الضيق، تحول بينه وبين الدور المناط به القيام به. هذا لا يدعو التيار إلى الأخذ بمنهج طفولي متهور، لكنه بالقدر ذاته يحذره من القبوع تحت وطأة أوهام تحرمه من الدور الريادي الذي بوسعه القيام به. المطلوب من التيار الوطني الديمقراطي الوصول إلى المعادلة المطلوبة بين الواقع الآني المسيطر، والدور التاريخي المستقبلي المنتظر بفتح الظاء. ثالث تلك المنطلقات، هو اعتراف الجزء المنظم، والذي يشكل النسبة الأعلى، بوعي واقتناع أنه ليس الوحيد الذي ينطبق عليه هذا التصنيف الذي ربما ينضوي تحت رايته الكثير من القوى التي يلغيها، ذلك الجزء المنظم، من حساباته، والمقصود بها ثلاث فئات أساسية: كهنة ذلك التيار من قدماء المناضلين، الذين قرروا أن يتنحوا جانبا، لأسباب كثيرة ليس هنا مجال سردها، لكن ربما كان الأكثر حضورا بينها، عجز هذا التيار عن تأسيس الإطار السياسي المناسب الذي يغريهم باكتساب العضوية فيه. الفئة الثانية هي قيادات منظمات المجتمع المدني، والتي تختزن تجربة سياسية غنية، ربما لا تقل عن تلك التي يتمتع بها عناصر تتبوأ اليوم مراكز قيادية رفيعة في الجمعيات السياسية التي يتشكل منها هذا التيار. البعض من تلك القيادات هو الابن الشرعي لهذا التيار، لكن هذا الأخير لم يتمكن من الخروج بصيغة سياسية تنظيمية تمكنه الاستفادة من هذه الكفاءات التي زاوجت بين الدور السياسي والعمل المجتمعي. الفئة الثالثة، هي القطاع المتنور من المجتمع، والذي ربما يفتقد التجربة السياسية، لكنه لم يتخل عن دوره الوطني. رابع تلك المنطلقات، هو طبيعة العلاقة التي تتطلب المرحلة بنائها مع السلطة القائمة. فبعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني، دخلت البحرين في مرحلة مختلفة نوعيا على الصعيد السياسي، من تلك التي خبرتها قيادة هذا التيار في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، التي كانت تسير آليات العلاقة بين السلطة والمعارضة قوانين تدور جميعها، بشكل أو بآخر، في فلك قانون أمن الدولة. تتطلب هذه المرحلة فنون معارضة مختلفة عن تلك التي تربت عليها عناصر الكادر الأساسي، بمن فيهم العناصر القيادية، في صفوف ذلك التيار. هذا التحول النوعي في الوضع السياسي يقتضي من اليسار الوصول إلى تقويم استراتيجي، وليس تكتيكيا، يستخلص الدروس من المرحلة الأولى، ويضع البرامج الملائمة للمرحلة القائمة، آخذا بعين الاعتبار في عملية التقويم هذه، كل التحولات السياسية التي هبت على المنطقة العربية، إقليمية كانت تلك التحولات أم دولية. هذه الجردة التقويمية، لا بد لها، إن شاء هذا التيار أن يكون مؤثرا حقيقيا في مجرى الأحداث، أن تقرأ المشهد السياسي بعمق، وتضعه في الإطار الاقتصادي الذي ولده، وتبني، في ضوء كل ذلك، الأطر التنظيمية التي تلائمه. خامس تلك المنطلقات، هو العلاقة مع الإسلام السياسي المعاصر، والذي يتمتع في البحرين بحضور لا يمكن تجاوزه. بداية لا بد من التأكيد على أن تكون العلاقة مع هذا التيار إيجابية في إطارها الوطني الصحيح، على أن يكون المعيار الوحيد هو الولاء المطلق للوطن، بعيدا عن التحزب الطائفي، بشقيه السني والشيعي، ومتجاوزا التخندق الفئوي، بأطره الفكرية والتنظيمية. يتزاوج ذلك الإطار التحالفي، الذي ينبغي نسجه بعناية، عدم الوقوع في فخ التصنيف المسطح الذي يقسم ذلك التيار بشكل عمدي مطلق إلى شيعي معارض، وأخر سني موال. فشعب البحرين المسلم بخلفيته الثقافية والحضارية، زود الحركة الوطنية البحرينية بقيادات طويلة القامة من الطائفتين. ولا يتسع المجال هنا لسرد الأسماء، ولا تسجيل الحوادث التي تؤكد أن شعب البحرين، وليس طائفة دون أخرى، هو الذي قدم التضحيات، ومن ثم فهو من يستحق نسج هذا التحالف. من الضرورة بمكان هنا التأكيد على أهمية، بل ضرورة بناء الجسور الراسخة مع هذا التيار، ورفض أي شكل من أشكال المعاداة له، شريطة أن يرسم التيار الوطني الديمقراطي حدود الهامش الضروري الذي يحافظ به من خلاله على نقاط الاختلاف، ولا نقول التناقض مع الإسلام السياسي، الأمر الذي يبيح وضع إطار وطني فضفاض ومرن، تنضوي تحت راياته كل العناصر الوطنية التي تهمها مصلحة البحرين، ولديها رغبة المساهمة في تطويرها، بمن فيها قوى الإسلام السياسي.