×
محافظة الرياض

مواطن ينقذ طفليه وزوجته من الغرق في نفق بالرياض

صورة الخبر

اختلف كثيرا بشأن الظروف الثقافية التي دفعت بظهور الرواية في العصر الحديث، ومع ان الخطاب الغربي تفرّد بتفسيره القائل بأن تمخضات الأحوال الاجتماعية الأوربية في القرون المتأخرة افرزت شكلا سرديا معبرا عن تلك الأحوال، فلا نعدم وجود تفسيرات أخرى، منها تطوير الرومانس السردي الشائع في القرون الوسطى، وتفكك المرويات القديمة، واعادة صوغ للمرويات الشعبية، واستعادة حديثة للملاحم القديمة، وتهذيب للآداب الكرنفالية، وكلما توسعت السياقات الثقافية امكن العثور على تفسيرات خاصة بنشأة النوع الروائي، وبالاجمال، فقد اصبح من المتاح، بل ومن الضروري، اعادة البحث في ظروف نشأة النوع الروائي حسب السياقات الثقافية للأمم، وعدم الاقتصار على التفسير الغربي الذي قد يصح في تفسير الشكل الغربي للرواية، ولكن لايشترط فيه القدرة على تفسير أشكالها الأخرى في العالم. وسنقف، في هذه المقالة، على الملامح العامة للتفسير الغربي الذي ربط بين الرواية والحداثة، على امل اثارة التفكير غير المباشر فيما إذا كان هذا التفسير صالحا لتفسيرة نشأة الرواية في بيئات ثقافية غير غربية. عرض الفيلسوف الألماني "هيغل" هجاء للعلاقات الاجتماعية في العصور الحديثة، ورأى أنّ الإنسان في الأدب الحديث تخلّى عن مسؤولياته الأخلاقية، إذا ما قورن بالإنسان القديم الذي عبّر عنه أبطال الملاحم القديمة الذين تطابقوا مع عالمهم، فالإنسان في العصور الحديثة، على الرغم من أنّه ما يزال مسكوناً بهاجس البحث عن القيم الكبرى، إلاَّ أنّه ينتهي بإعلان فشله أو بالموت دون تحقيق أية نتيجة، وهو أمر لم يكن يقبله البطل الملحمي؛ لأنّه يرى نفسه قيّما على المثل الأخلاقية بكاملها في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه" الفرد البطولي لا يقيم فاصلا بين ذاته وبين الكلّ الأخلاقي الذي هو جزء منه، إنما يؤلف وهذا الكلّ وحدة جوهرية. أما نحن بالمقابل، وبمقتضى أفكارنا الراهنة المشوّشة والمطبوعة إلى الأبد بالنزعة الفردية، فإننا نفصل أشخاصنا وغاياتنا واهتماماتنا الشخصية عن الغايات التي ينشدها هذا الكلّ؛ فما يفعله الفرد إنما هو عمل شخصي خاص به، وهو لا يعدّ نفسه مسؤولاً إلاَّ عن أفعاله، لا عن أفعال الكلّ الجوهري الذي هو جزء منه". ألهم هذا التفسير نقادا آخرين، فقد اعتبرت الرواية ملحمة العصر الحديث عند "لوكاش" لأنّها أوجدت قطيعة بين بطلها والعالم الذي يعيش فيه، فبطل الرواية نقيض بطل الملحمة. وذهب "غولدمان" الى شيء من ذلك حينما حينما قال بأنها" قصة بحث عن قيم أصيلة، وفق كيفية منحطة في مجتمع منحط، انحطاطاً يتجلّى، فيما يتعلق بالبطل بشكل رئيسي، عبر التوسيط وتقليص القيم الأصلية إلى مستوى ضمني واختفائها بوصفها واقعاً جلياً" ظهرت الرواية طبقا لهذا التفسير لدواعٍ تتصل بانهيار سلّم القيم الذي كان سائداً في المجتمعات القديمة، والذي عبّرت عنه الملحمة حينما كان التواصل بين البطل الملحمي والعالم متماسكاً، فالبطل يربط نفسه مباشرة بذلك العالم، ويحمّلها مسؤولية الحفاظ عليه. وبظهور المجتمعات الحديثة، اضطربت العلاقة بين البطل والعالم. لم يعد البطل مسؤولاً عن العالم الذي انحطّت القيم فيه، وانهارت العلاقات التقليدية التي تفترض الصدق المطلق والمسؤولية الكاملة، والوفاء المطلق، والنماذج التي استقى " لوكاش" منها تصوّراته، هي مجموعة من الروايات التي ظهر فيها الأبطال منشطرين بين رؤى ذاتية أصيلة، ومجموعة من التصوّرات الجماعية المنحطّة، فموقفهم الإشكالي من هذين العالمين المتنازعين، وسعيهم للتعبير عن رؤاهم تجاه حالة الالتباس هذه أدى إلى تمزيقهم بين قطبين يتعذّر التوفيق فيما بينهما، كما هو الأمر في "دون كيخوته"و"الأحمر والأسود" و"مدام بوفاري". في هذه الروايات ظهر البطل باحثاً عن قيم أصيلة، في خضم انحطاط عام؛ ولهذا قرر "لوكاش"، مستعينا بتصوّر"هيغل" إلى أن الرواية ملحمة برجوازية، فالشخصية الإشكالية في الرواية ظهرت في الحد الفاصل بين موقف أخلاقي أصيل يعبر إمّا عن قيم كلية وإمّا عن قيم فردية صحيحة، أو موقف أخلاقي منحط تمثله تصوّرات شعبوية سائدة مشبعة برؤى مخادعة، تعبّر عن أنانية الإنسان الحديث وتطلّعاته الوضيعة، وفي الحالتين لا تستطيع الشخصية الإشكالية الاعتصام بالقيم التي تؤمن بها، لأنّها ستُفرد عن مجتمعها، وتُعدّ منبوذة، ولا تكون قادرة على الاندماج بالقيم السائدة التي تعرف انحطاطها لأنّها ستفقد تفرّدها الشخصي، فتنتهي نهايات مأساوية وسط اشتباك العوالم القيمية التي تحيط بها، كما حصل ل"دون كيخوته" و"مدام بوفاري". فسّر كل من "هيغل" و"لوكاش" و" غولدمان" نشأة الرواية بناء على التجربة التاريخية للغرب، فتفاعلات العصر الحديث، وظهور الرأسمالية، واقتصاد السوق، أثّرت في نشأة الرواية؛ من جهة أنّها وضعت تحت تصرّف الأدب مادة جديدة من العلاقات الإنسانية الجديدة، ومن جهة أنّها قضت على مظاهر التعبير الملحمي الذي كان يقوم على تصوير التوافق بين البطل والعالم، وبه استبدلت نثرا سرديا يصوّر عزلة الفرد وخصوصيته الذاتية، وهو يكافح في عالم منحط، لا وجود للمثل العليا فيه إلاَّ بوصفها مأثورات متحدّرة من ماضٍ لم يعد له وجود. وبذلك ارتهنت الرواية، تبعاً لهذا التفسير بالتطوّرات الداخلية للعلاقات في المجتمعات الغربية الحديثة، فالشكل الروائي ينسجم مع نمط العلاقات الاقتصادية في تلك المجتمعات.