أعشق لحظات التفكر والتأمل.. لحظات أسبح عبر ذاكرتي إلى ذلك الوقت قبل ثلاثين عاماً أرى فيها عيد تلك الأيام. كنت أسمع التكبيرات بوضوح شديد كأن الإمام والمصلين يكبرون من داخل فناء منزلنا. كنت أعرف جميع المصلين في المسجد، وبمجرد انقضاء الصلاة أعود إلى بيتي، وألقي بنفسي في أحضان والدتي، التي تضع العيدية في جيبي. كنت أذهب مع أبناء عمي للسلام على أقاربنا وجيراننا وكل منازل الحي، ونحصل على العيدية من دون أن نطلبها منهم، فالهدف كان الزيارة في حد ذاتها، تجسيداً لصلة الأرحام، تلك السنة النبوية التي حرص أهلنا على غرسها فينا. أعود إلى منزلي عصراً فأجد خالي وخالتي اللذين كانا يهبان لاحتضاني وتقبيلي، وبعد صلاة العشاء يغالبني النوم بعد يوم طويل وحافل وأخلد إليه. أعود بالزمن إلى اليوم لأرى كل المعادلة قد قلبت، في زمن أصبحت التقنية تسيطر على أغلب جوانب حياتنا، ونرى آثارها امتدت إلى أسلوبنا في التهنئة بالعيد، فاختصرت الزيارة برسالة نصية ممهورة باسم مرسلها. الكل تقريباً يبحلق في جهازه الذكي، وينهمك بالرد على رسائل التهنئة من جانب ويستقبل أو يتصل ليهنئ بنفسه. لقد اختلفت نكهة العيد عندما حكمتنا التقنية، كما أصبح السفر لقضاء إجازة العيد هو نهج الكثير من الناس، ولا أزال أجد نفسي رافضاً مجرد التفكير في السفر في إجازة العيد، وأفضل قضاءها مع والدتي التي احتضنها كما احتضنتني في ذلك الوقت. اليوم أجد نفسي أحتضن ابني وأبناء وبنات أشقائي وشقيقاتي وأقدم لهم العيدية، لأرى الفرحة مرتسمة على وجوههم. في النهاية تغير نمط الحياة هو سنتها، لكن تبقى اللحظة الأجمل في العيد هي التجمع مع الأهل وصلة الأرحام، فهي كما جاء في الحديث النبوي تزيد في الأعمار، وتبارك في الأرزاق.