خيري منصور تتراجع الفضائح أو الغيتات السياسية الأمريكية أمام فضيحة علمية وأخلاقية كالتي فاحت رائحتها مؤخراً، وهي تواطؤ علماء نفس وأكاديميون مع المخابرات المركزية والبنتاغون، وتقديم خدمات للقلعة الكافكاوية السوداء المسماة غوانتانامو. الفضيحة السياسية قد تطيح برئيس كما حدث لنيكسون، لكن الفضيحة العلمية تطيح بسمعة دولة وبأدبياتها، لأن استخدام الطب النفسي لأسباب متعلقة بالتضليل أو الإيقاع بالضحايا لا يخون فقط أبوقراط وينكث بقسمه، بل يعيد إلى الذاكرة المقولة اليسوعية الشهيرة وهي إذا فسد الملح فكل شيء يصبح فاسداً، والعلم خصوصاً ما يتعلق منه بالنفس البشرية هو أعز من الملح لأن اختراقه سياسياً أو إيديولوجياً يؤدي إلى توظيفه لغير صالح الإنسان. عندئذ لا فرق بين طبيب نفسي يستدرج الضحية إلى اعتراف سياسي وطبيب عضوي يضع علمه في خدمة السجان من أجل التعذيب وانتزاع الاعترافات بالقوة. ما نشر مؤخراً في أمريكا وخارجها عن استخدام أكاديميين وباحثين وعلماء في السايكولوجيا ينذر بأخطار قد تنتهي إلى كوارث تهدد حضارة برمّتها، فالعلم للعلم فقط، هو علم منزوع الدسم الأخلاقي. وحين يحدث ذلك فإن كل شيء يصبح مباحاً ومتاحاً! وإذا كان الطبيب الذي يخدع مرضاه ويحقنهم بالسم القاتل يعد مجرماً مع سبق الإصرار فإن النفساني الذي يستثمر ضعف الضحية وارتباكها والخلل العصبي الناجم عن تعذيبها لا يقل إجراماً. وأمثال هؤلاء يجب أن يجردوا حتى من ألقابهم العلمية والنقابات المهنية التي ينتسبون إليها. لكن من ابتدعوا ما يسمى الشرعية المستدركة للحروب أو البحث عن ذرائع لها بأثر رجعي وكذلك ما يسمى الحروب الاستباقية لا مانع لديهم على الإطلاق في أن يوظفوا العلم لخدمة الخديعة. وإذا كان الجنرالات ومنهم كولن باول قد اعترفوا بالخديعة واعتذروا، فمن باب أولى أن يقوم بذلك علماء وأطباء تتلخص مهمتهم في خدمة الإنسان وتخفيف آلامه وليس العكس.. وبالطبع ليست هناك مفاضلة بين غيت سياسية وأخرى علمية وأخلاقية، لكن الفضائح المتعلقة بالعلم والضمير المهني تلحق أذى بالغاً بالعديد من الناس إضافة إلى الضحايا الذين تعرضوا إلى التضليل والتلاعب بالوعي. وقد لا يكون هذا هو الاختبار الأول لحضارة في طور الاحتضار الأخلاقي، لكنه بالتأكيد الاختبار الأعسر.