تعيد فرنسا اكتشاف نتاج المصور الفوتوغرافي الراحل بيار دو فونوي (1945 - 1987) من خلال تخصيص معرض استعادي له في قصر مدينة تور العريقة، المسجلة على لائحة التراث العالمي لمنظمة «يونيسكو» الدولية كمدينة للفن والتاريخ. يأتي هذا المعرض الذي أنجز بالتعاون مع مركز «جُو دو بوم» (jeu de Paume) للفنون المعاصرة في باريس ليكشف لنا كيف أنّ هذا المصور الذي رحل باكراً إثر أزمة قلبية كان من ألمع مصوّري مرحلة سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. يكشف لنا المعرض أيضاً أنه كان عاشقاً كبيراً لمصر حيث أمضى سنتين أنجز فيهما صوراً بالأبيض والأسود لآثارها التاريخية، وهي صور تختصر حسه الجمالي المتفرّد والتقاطه روحَ الحضارة الفرعونية المسكونة بسؤال الموت والخلود. وليس بيار دو فونوي أول مصور عاشق لمصر، إذ منذ اختراع الصورة الفوتوغرافية اســـتهوى هذا البلد الكـــثير من أبرز المــبدعين، ومنهم من كان من رواد هذا الفن كالفرنسي فيليكس تينار (1817 - 1892) الذي قام برحلة شهيرة إلى مصر امتدت من العام 1851 إلى العام 1852 أنجز فيها 160 صورة مدهشة صدرت في كتاب عن دار «غوبيل» العام 1858. وهناك أيضاً مكسيم دوكون (1822 - 1894) الذي كان أيضاً كاتباً وصديقاً للأديب غوستاف فلوبير صاحب رواية «مدام بوفاري»، وتتميز صوره بدقّتها الكبيرة، وهي تبقى وثيـــقة تاريخية نادرة يمـــكن الاطلاع عليها في محفوظات مكتبة فرنسا الوطنية في باريس. ماذا عن نتاج بيار دوفونوي وعشقه لمصر؟ حصل المصوّر عام 1983، وكان في التاسعة والثلاثين من العمر، على منحة من «المركز الوطني للصورة» مكّنته من التوجه إلى مصر حيث تنقّل بين الأقصر وسيناء والإسكندرية، وكان اطلاعه على هذه الأمكنة بمثابة العودة إلى الينابيع الأولى وإلى جذور الإنسانية حين امتزجت العلوم والفنون مع المعتقدات الدينية في إطار سحري لطالما أدهش الغربيين الذين زاروا مصر منذ حملة نابليون بونابرت عند نهاية القرن الثامن عشر. ومن المعروف أن هذه الحملة مهّدت لإعادة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة وفكّ ألغازها ولغتها مع علماء كبار ومنهم العالم شامبليون الذي فك أسرار اللغة الهيروغليفية الذي سمح لاحقاً بدرس النصوص المحفورة على جدران المعابد والمقابر وكتابة أبرز محطات الحضارة الفرعونية منذ بناء الأهرام وحتى نشأة دولة البطالسة في الإسكندرية، وكان آخر ملوكها كليوبترا التي أدّت هزيمتها إلى تحوّل مصر إلى جزء من الإمبراطورية الرومانية عام 30 قبل الميلاد. من يتأمّل اليوم في الصور التي أنجزها دوفونوي في مصر يدرك على الفور أنه أمام رؤية جديدة لم نعهدها من قبل لدى المصورين الذين سبقوه إلى زيارة تلك المواقع والأمكنة. هناك بالطبع صور الآثار والمعابد وصور لأماكن مجهولة بعيدة من حركة الاجتماع والبشر، وهي تختصر أحد وجوه مصر الخالدة في الزمن حيث الشمس تطغى على كل شيء وحيث لا يزال يلمع ذهب الآلهة. وأراد المصوّر، من خلال الصور التي التقطها بالأبيض والأسود، تسجيل اللامرئي ورؤية ما لا يرى، انطلاقاً مما تراه العين. وكان ممسكاً بكل أدواته التقنية، خصوصاً أنه عمل كذلك مسؤولاً في وكالة «ماغنوم» المعروفة، لكن ثقافته المفتوحة على الآداب والأديان وحضارات الآخرين بصورة عامّة، سمحت له بتخطي الصور النمطية المعهودة والتعبير عن نظرته التأملية للعالم والكون. وتستحضر صوره في مصر الغياب وتستعيد الأزمنة الضائعة. ومن الأمور التي أدهشته تَطابق بعض تقنيات التصوير التي اعتمدها مع تقنيات التحنيط لدى المصريين القدامى. وبسبب تميّز رؤيته وفرادتها، خصص «مركز بومبيدو الثقافي» عام 1984 معرضاً بأكمله لصوره «المصرية» ولحضارة مصر التي كتب عنها أنها «كانت الحضارة الأولى المكرّسة للصورة». وها هو المصوّر الفرنسي يعود اليوم إلى واجهة الحدث الثقافي من خلال المعرض الجميل في مدينة تور، ومعه مصر القديمة التي لا تغيب شمسها.