يُعد المال «عصب الحياة»، والكل يسعى إلى جمعه والاستكثار منه، فكلما زاد مال المرء كلما طمع في الزيادة، وقد كان الناس منذ القدم يحرصون على كسبه وجمعه، حيث ترى ذلك في حكمهم وأشعارهم، فقد قالوا قديماً عن المال مقولة يرددها كل جيل: «المال عديل الروح»، أي أنه بمنزلة الحياة، قال الشاعر «بركات الشريف»: وأحفظ حلالك اللي مع الناس يغنيك اللي إلى بان الخلل فيك يرفاك أشهرها: «صاير الباب»، خشب السقف، «بيت الدرج»، «عين الوجار»، «حوش الغنم»، البئر، «تحت الفرشة» ومع حرص الإنسان على الاستزادة في جمع المال، إلاّ أن هناك ما يؤرقه على الدوام، وهو كيفية حفظه في زمن مضى، حيث كان المرء يخاف على نفسه قبل أن يخاف على ماله، فالخوف والنهب والسلب كان مشاعاً، مما جعل طُرق حفظ النقود مُختلفة من أناس إلى آخرين حسب الثقافة والحاجة، لكن في النهاية استطاع كثير منهم حفظ أموالهم دون أن تمتد لها يد السارقين أو العابثين. وعندما يخبئ بعض الناس أموالهم ويدفنونها تحت الأرض فإنهم لا يخبرون عنها أقرب قريب من زوجة وأولاد، حرصاً على بقائها بعيدة عنهم، كي لا يعبثوا بها أو يبذروها، بل يكون من دفنها هو من يعرف مكانها فقط، فيخرجها ويصرف منها على قدر حاجته ثم يعيدها لمأمنها، لكن لا يدري أن الموت منه قريب فإذا ما نزل به فقد لا يستطيع البوح بمكانها، فتبقى أثراً بعد عين، حيث يوجد كنوز كثيرة ماتت ودفنت بموت ودفن صاحبها. لا يوجد لديهم بنوك أو مراكز «ودائع» وإنما يضعون المال في «صرّة» أو «حجري» ثم تبدأ «ذهانة» البحث عن مكان ومحبة الناس للمال تركتهم يسعون بكل ما لديهم من قوة لامتلاكه، ولما سمع بعض العامة من الناس عن بعض «الكنوز» صاروا يبحثون عنها في كل مكان خرب، بل ويتتبعون الأحلام والقصص والأساطير التي تحكي وجود القصص الأثرية، فأتعبوا أنفسهم في البحث عنها بلا طائل، وخسروا جهدهم وأموالهم في سبيل الحصول على الثراء السريع عبر أوهام زادتهم شقاءً. قديماً كان «قادة الجيوش» يقتلون كل من يُساهم في «دفن الكنوز» لضمان عدم معرفة الآخرين بموقعها السري صاير الباب ونروي قصة وقعت حين باع «صالح» منتوج مزرعته من التمر بعد موسم حافل بالكد والتعب والعناية بالنخيل، وقبض الثمن نقوداً فضية خالصة من نوع «الفرانسي» -عملة سائدة قديماً-؛ ليعود بها إلى بيته وهو يحمله في كيس على ظهره وهو مبلغ كبير، وفي الطريق تبادر الى ذهن «صالح» سؤال محيّر: أين يخبئ المال؟، فلا توجد في ذلك الوقت بنوك ولا خزانات خاصة لحفظه، وما هي إلاّ لحظات وارتسم في ذهنه خطة لحفظ النقود، دون أن تصل اليه أيدي السارقين أو العابثين، فهو كغيره من الناس له أماكن خاصة لحفظ المال، فما هي يا ترى؟. أحفظ حلالك اللي مع الناس يغنيك اللي إلى بان الخلل فيك يرفاك وقد اعتاد الناس على أن يحفظوا أموالهم في الأماكن التي لا يمكن أن تخطر على بال أي أحد بأنها موجودة بها، ومنها على سبيل المثال ما اختاره «صالح» لحفظ ماله وهو «صاير الباب»، وهي حفرة دائرية الشكل ويوضع فيها «حصاة» منقورة يسقط فيها العمود الخشبي الذي يمسك الباب ويثبته ويدور فيها حسب حركة الباب خلال فتحه وإغلاقه، فيعمد الشخص الى فك الباب لأحد الغرف الداخلية في البيت والحفر تحت صاير الباب، ومن ثم يخبئ النقود فيها ويدفنها ويضع الحجر، ثم يعيد تركيب الباب على الحفرة، وبذلك لا يستطيع أحد أن يعثر على المال ولا يخطر له ذلك على بال. خشب السقف وعين الوجار ومن الطرق أيضاً اخفاؤها في خشب السقف، بحيث يصعد على سلّم ومن ثم يُخفي صرة النقود في خشب السقف، وإذا ما احتاج إلى مال صعد وأخذ منها كفايته وأعاده في مخبئه السري الذي لا يعلم عنه أحد، ومن الطرق أيضاً دفنها في مكان شب النار في «الوجار» ويسمى «عين الوجار»، حيث يعمل حفرة عميقة بطول ذراع تقريباً، ثم يدفن النقود ويدفنها ويعيد صب أرضيتها ب»الجص»، فلا تتأثر النقود بحرارة النار نظراً لبعدها عن الحرارة في باطن الأرض، أما اذا كانت النقود كثيرة جداً فانه لابد من حفر حفرة كبيرة وعميقة ودفن النقود في «قدر نحاسي» يسمى عند الغالبية في ذلك الزمان «حجري»، وبعد طمره بالتراب قليلاً يوضع الرماد وهو بقايا الجمر، والهدف من ذلك هو حفظ النقود والوعاء التي فيه من التآكل أو التلف، وكذلك جعله علامة واضحة لمكان النقود، حيث يسهل على صاحبها العثور عليها عند الحفر، وبعد ذلك يدفن بالتراب ويساوى التراب بالأرض، وعادةً ما يكون هذا المكان الذي تدفن فيه النقود أو الذهب في مكان لا يمكن لأحد أن يتصور أن تدفن فيه ك»بيت الدرج» أو «حوش الغنم»، التي تسرح وتمرح على كنوز من الأموال لا يعلم مكانها من في المنزل أو أقرب قريب له كالزوجة، كل ذلك من الحرص على المال. دفائن الجيوش ومن المعروف أن أصحاب الحضارات القديمة لا يملكون مكاناً عاماً لحفظ النقود كالبنوك مثلاً، وعليه فإن طرق دفن أموالهم وكنوزهم وإخفائها شائع ومعروف للجميع، حيث تختلف طرق دفن الكنوز بين مجموعة وأخرى، حيث إن هناك دفائن أفراد وأخرى دينية وكذلك أميرية ودفائن جيوش. وتُدفن أموال الأفراد بطريقة بسيطة بجوار منازلهم أو داخلها في غرفة، حيث لا توضع لها إشارة إلاّ نادراً، كذلك إذا كانت الأموال كثيرة تدفن في مزارعهم وأراضيهم أو خارج قراهم، أمّا إذا كان الفرد في قافلة أو مسافراً وخاف فإنه يدفن أمواله، بوضع إشارة ليرجع إليها وتكون إشارات الأفراد من واقع حياتهم وما يكون في محيطهم، أما أموال الدولة فتدفن عادةً في داخل القصر أو تحته أو بجواره، في مغارات أو سراديب، وقديماً كان قادة الجيوش يقتلون كل من شارك بالدفن لإخفاء مكان الكنوز، وأشهر دفائن الجيوش دفائن «الاسكندر المقدوني». كنز دفين ولعل أعظم وأغلى كنز عثر عليه في التاريخ الحديث هو الكنز الذي ظل مخبأ لقرون في سراديب وأقبية في معبد جنوب الهند، حيث هبت السلطات والشرطة المسلحة لحراسة المكان الذي يضم تمثالا ذهبيا ارتفاعه أربعة أقدام مرصع بالزمرد، وقلادات ذهبية وتيجان مرصعة بالمجوهرات، وتقدر قيمة الكنز الدفين ما يصل إلى (750) مليار روبية -17 مليار دولار-، لكن مسؤولين قالوا في حينه إنهم لم يُقيّموا بعد سعره، ويعتقد أن أغلب الأشياء التي وجدت هناك هي قرابين قدمها المحبون، وكذلك ثروة الحكام السابقين لمملكة «ترافانكور»، حيث يعود بناء المعبد إلى القرن السادس عشر الميلادي في ولاية «كيرالا» بجنوب الهند، وهو معبد ملكي للحكام السابقين ل»ترافانكور»، والآن جزء من الولاية، وتزيد قيمة الكنز عما تنفقه الحكومة الاتحادية على التعليم سنوياً، وقد دار نقاش بين المثقفين والزعماء بشأن كيفية استخدام هذه الثروة. بوابة بغداد وكان مجرد الحصول على كنز من كنوز الأرض المدفونة حلماً يراود الكثيرين ممن يحلمون بالثراء ويعتمدون على الخيال، وقد وردت العديد من الأساطير التي تزعم عثور بعض الناس على كنز أبدلهم من حالة الفقر المدقع الى الثراء الفاحش، ولعل من أشهر تلك الأساطير ما ذكره الكاتب «عبدالكريم الجهيمان» -رحمه الله- في كتابه (أساطير شعبية) وهي قصة «الحطّاب وكنز بوابة بغداد»، ملخصها حول حياة حطّاب فقير يعيش في بلدة «أشيقر» بالقرب من مدينة الرياض، كان يحتطب في الصيف على حماره ويجلب الحطب الى السوق ليبيعه، وفي فصل الشتاء يجمع الحشائش ويبيعها أيضاً، وهكذا حياته نكد وهم مستمر، وفي إحدى الليالي وهو نائم، شعر أن هناك شخصاً أيقظه من النوم وقال له: «أي معيشة معيشتك هذه، إذا سمعت نصيحتي سوف تصبح أغنى شخص في هذا العالم، إذهب إلى بغداد واحفر تحت بوابتها الشرقية، وحدد له المكان، وقال: احفر حفرة مقدارها ذراعين وسوف تجد كنزاً من الذهب الخالص»، فز الحطّاب من النوم وما زال أصداء الكلام يرن في أذنه، لكنه قال أين أنا من بغداد؟، لكن المنام والشخص الذي أيقظه عاد إليه ثلاث ليال متتالية، مما جعله أي الحطّاب يفكر جدياً في الأمر، وليس له هنا شيء يخسره فباع حماره، وسافر إلى بغداد مع أحد القوافل التي تذهب إليها باستمرار. وعندما وصل الحطّاب إلى بغداد أتخذ له حفشاً بجانب البوابة، وجعل له سقفا وأحاطه بالأخشاب، وصار يعمل في النهار ومن ثم يعود ليلاً ومعه عدة الحفر بعد أن ينقطع مرور الناس وينامون، لكنه أُصيب بخيبة أمل، فرغم أنه وسع دائرة الحفر أكثر مما وصف له في منامه إلاّ أنه لم يجد شيئاً، فدفن الحفرة وخرج إلى السوق مهموماً يفكر في مغامرته الفاشلة فأشترى عنقوداً من العنب، لكنه لم يجد مكاناً مناسباً يأكله، فرأى أن يذهب الى المسجد فيأكله ويصلي لعل همومه تنجلي، ورأى شيخاً كبيراً مضطجعاً في أحد جنبات المسجد فقال في نفسه العنقود كبير لمَ لا أذهب وأشارك هذا الشيخ فيه وأقص عليه قصتي ورؤياي الفاشلة، لعلي أجد عنده ما يسلي، قال له الشيخ: «أرى أنك غريب فمن أي البلاد أنت؟»، فقال: «إنني من نجد، وقد جئت إلى هنا بسبب رؤيا فاشلة ثم قصها عليه»، فقال له الشيخ: «أنت رجل خيالي وتعيش مع الأوهام، فقد حدث لي مثل منامك ذات يوم وقد جاءني شخص في المنام وقال لي إذهب الى بلدة أشيقر، وابحث عن بيت فلان فان تحت مربط حماره كنز عظيم من الذهب»، وكانت البلدة هي نفسها بلد الحطّاب والبيت بيته كما وصفها والاسم هو نفسه، وأردف الشيخ كلامه: «أنه أهمل هذه الرؤيا، وقد تكررت ثلاثة أيام، فأين أنا من نجد ومن بيت ذلك الحطّاب، وكيف أذهب واحفر في بيت شخص يسكنه؟». انفرجت أسارير الحطاب واضمر في نفسه العودة والحفر، وحين عاد إلى بيته تخاصم مع زوجته كي تذهب إلى أهلها، وهكذا حصل له ذلك، فنظف مربط الحمار، وحفر في نفس المكان الذي وصف له الشيخ في بغداد، وأخيراً ظهر الكنز، ففكر أين يخفيه عن جيرانه وزوجته؟، فأخذ من الكنز قدر حاجته ثم حفر أخرى تحت درج البيت ودفن الكنز ثم دفن مكان الكنز واشترى حماراً ربطه في نفس المكان، وأعاد زوجته بعد أن أرضاها وصار كل ما أراد أن يأخذ شيئاً من الكنز أغضب زوجته كي تذهب إلى أهلها، وهكذا سارت حياته هم طويل وخوف شديد من اكتشاف أمر الكنز، مرض وصار الناس يتساءلون من أين يعيش وهو لا يعمل ويجلس طوال الوقت في بيته؟، فزاد به المرض وجاءته سكرات الموت وأراد أن يخبر بمكان الكنز، لكن لسانه صار جامداً لا يستطيع أن يتحرك وشخصت عيناه وفارق الدنيا وفارق كنزه الذي ظل طوال حياته يحرسه فلا أفاد منه ولا استفاد منه غيره. قدر ذهب لم يدر بخلد أحد المشترين لأحد المنازل في أحد البلدان النجدية أنه اشترى كنزاً من غير أن يعلم، حيث كان داخله بئر، وصار يستقي منها الماء باخراج «دلو» الماء من هذه البئر التي كانت مغطاة ومسقوفة، إلاّ من فتحة جانبية تسمح بخروج «دلو» الماء، وفي إحدى المرات وهو يهم باخراج الدلو انقطع الحبل فاحتاج الى أن يكشف غطاء البئر وينزل ويخرج الدلو من الماء ويربطه بالحبل، لكن لمّا كشف غطاء البئر وجد شيئاً له بريق أصفر يعكسه ضوء الشمس، فلما تحقق منه فإذا هو قدر نحاسي معلق في العمود الذي يتوسط البئر، ويحمل سقف البئر، فلما جذبه إليه وجده مملوءاً ذهباً، فقد كان صاحب هذا المنزل كبيرا في السن وقد خبأ هذا المال ومات وتركه دون أن يعلم عنه أحد، وقد باعه الورثة وهم لم يعلموا بوجوده، ففرح هذا المشتري وحمد الله على هذا الرزق، وأصبح فيما بعد أغنى رجال البلدة. تحت فرشة الصالة! ومن الطرائف المرتبطة بجمع المال وحفظه، قصة طفل بريء دأب على أن يجمع كل ما يعطيه إياه والداه من نقود وما يحصل عليه من عيديات وهدايا من الأقارب والأصدقاء طوال العام، ويضعها تحت «فرشة» المنزل في الصالة، واستمر على ذلك سنين منذ بدء دخوله الى المدرسة الى أن كاد أن يكمل المرحلة الابتدائية، وفي يوم من الأيام جاء من المدرسة ووجد فرش المنزل مستبدلا، فدخل مذهولاً يتخطى أخوته ووالديه الفرحين بالفرش الجديد للبيت وهو يصرخ متجهاً الى الزاوية التي في صالة البيت وهو يصيح ويردد: «فلوسي، فلوسي»، فلما رفع الفرشة لم يجد شيئاً وكاد أن يغمى عليه من الجزع، فقال والده: «إنها في جيبي كاملة، خذها واسكت وكف عن الصراخ والبكاء»، ألقاها عليه وإذا هي مبالغ كبيرة من فئة الريال والخمسة والعشرة والخمسين والمئة، فأصبح يعدها وهو يرتجف في موقف مضحك من الجميع.