يناضل الفلسطينيون طوال تاريخهم لتحقيق حلم قيام دولة لهم كما دول العالم الأخرى، فهم يمتلكون كل المقومات اللازمة والضرورية لقيام هذه الدولة من شعب وهو أساس أي دولة، وسلطة وإن كانت غير مكتملة، وأرض يشهد التاريخ أنها أرضهم. لكن السؤال المهم هنا هو لماذا لم تقم الدولة الفلسطينية؟ وهل يمكن أن تقوم ؟ وبأي شكل وبأية آلية ؟ وهل من الضروري أن يكون للفلسطينيين دولة مثلهم مثل غيرهم؟ بقراءة تاريخية يمكن أن نخلص إلى القول أن فلسطين كانت تابعة للقوة الإقليمية الأقوى بمعنى انه كانت هناك أرض فلسطين وكان هناك شعب فلسطين لكن كانت هناك صعوبات شديدة تواجه عملية وجود كيان فلسطيني مستقل كما كان حال معظم الدول العربية آنذاك. وما يعنيني هنا أنه عندما وضعت المنطقة كلها تحت الانتداب البريطاني والفرنسي أيام عصبة الأمم، كان الهدف هو العمل على استقلال الدول العربية التي أسس اتفاق سايكس- بيكو لها، وحينها وضعت فلسطين عن قصد تحت الانتداب البريطاني صاحب وعد بلفور، ووقتها التزمت الحكومة البريطانية بتطبيق هذا الوعد. وفعلاً بدلاً من أن يكون هدف الانتداب البريطاني هو قيام فلسطين كدولة وهو ما تحقق فعلاً بقرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي أسس لقيام الكيان الإسرائيلي كدولة، الأمر الذي حال دون قيام فلسطين الدولة لأن هذا الكيان قام بممارسة كافة الوسائل من حروب واستيطان وتهويد ومصادرة للأرض، وقد نجح حتى الآن في عدم قيام دولة فلسطينية حقيقية، لكنه فشل في الحيلولة دون تطور عناصر الدولة الفلسطينية الثلاثة حتى الأرض التي تحتلها يسكنها الشعب الفلسطيني. لكن يبقى السؤال عن واقعية وإمكانية قيام دولة مستقلة في ظل التمدد الاستيطاني الذي ابتلع الأرض الفلسطينية لدرجة أنه بات من الصعب تصور قيام هذه الدولة على أرض متكاملة جغرافياً وسكانياً. ومن ناحية أيديولوجية صهيونية فإن إسرائيل ترفض قيام الدولة الفلسطينية لأنها ترى في قيامها انهياراً لهذه الأيديولوجية والأساس الذي قامت عليه، ولذا فالمعادلة الإسرائيلية تقوم على دولة يهودية مقابل كيانات فلسطينية متفرقة، هذه السياسة فشلت بدليل نجاح الفلسطينيين في انتزاع دولتهم بقرار أممي وإن كانت دولة مراقب. الدولة الفلسطينية قائمة وتتوفر لها أركانها الثلاثة العنصر البشري وهو الأقوى والذي في المدى القريب سيحقق تعادلاً مع كل عدد اليهود في الداخل والخارج، ولديه مؤسسات سلطة وإن كانت في حاجة لمزيد من المأسسة والشفافية والديمقراطية، ولديه الأرض التي تحتل إسرائيل الجزء الأكبر منها. ولذلك فإن الفلسطينيين أمامهم أكثر من خيار، الخيار الأول هو الشروع والإعلان عن انتهاء مرحلة السلطة الفلسطينية التي أفرزتها اتفاقات أوسلو التي تنتهي مع ظهور شخصية دولية جديدة، وهذه الشخصية توفرت للفلسطينيين بقبول فلسطين عضواً في الأمم المتحدة كدولة مراقب، وهذا الخيار يحتاج إلى رؤية سياسية نضالية جديدة، وبناء نظام سياسي ديمقراطي، وخيارات لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي تقوم على الشرعية الدولية التي تتيح للفلسطينيين تحركاً واسعاً، وقد يواجه هذا الخيار صعوبات وتحديات كثيرة وخصوصاً من جانب إسرائيل، وهذا أمر متوقع، ولكن بالرؤية والخيارات البديلة يمكن إجهاض كل محاولات إسرائيل في النهاية، وفي هذا الخيار فإن تفعيل المسؤولية الدولية بإنهاء الاحتلال يصبح أمراً واقعاً وممكناً. هناك من يرى أن هذه الدولة حتى لو قامت ستكون دولة بلا صلاحيات، وبالتالي ما قيمة مثل دولة كهذه. وهذا الرأي فيه قدر من الوجاهة لكن أساس هذا الخيار هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبناء المؤسسات الفلسطينية التي تحفظ الهوية الفلسطينية، وهي بداية مرحلة جديدة في إدارة الصراع من خلال الدولة. والفارق كبير بين إدارة الصراع بالدولة وإدارة الصراع من دون الدولة. وهنا يحضرنا نموذج جنوب إفريقيا، والتركيز هنا على السياسات العنصرية والتمييزية الاحتلالية التي تمارسها إسرائيل، وقد بدأت مظاهر ونتائج هذه السياسات تظهر بصور المقاطعة والعزلة والانتقاد الدولي ويمكن البناء عليها مسقبلاً، وتتوفر لهذا الخيار الكثير من المكونات والعناصر منها التداخل البشري، والتداخل المكاني، وتواجد ما يقارب عشرين في المئة من سكان إسرائيل في أراض يشاركون في الحياة السياسية في إسرائيل ويمكن أن يكونواً مدخلاً لهذا الخيار. ويبقى ان الانقسام الفلسطيني وعدم التوافق هو الذي يقف أمام هذين الخيارين، وهو ما قد يقود لخيار ثالث يناقض الخيارين الأولين، وهو خيار الكانتونات الفلسطينية المستقلة والتبعية التاريخية لكيانات سياسية أكبر، مع شكل من أشكال الحكم الذاتي الداخلي. drnagish@gmail.com