المخرج الفرنسي ستيفان فالونتان Stphane Valentin فيلمه "مارادونا رام الله" بلقطات مسددة من الوهلة الأولى نحو الهدف. الحياة هنا يتوقف فيها النفَس حسب عدد مواقف التفتيش ولا يستدير في محيطها إلا كرة القدم. العنوان يحمل في ثناياه قنبلة إعلامية كبيرة المفعول: ماذا يمثل مارادونا للكرة الفلسطينية؟ هل الكرة الفلسطينية بحاجة لأيقونة عالمية للخروج من الحصار الإعلامي؟ هل يتفكك الحصار بالبواخر فقط أم أن السينما أسطول لا يحتجز؟ وهل العنوان طُعم يصطاد به المخرج المقال والشاشة والمعلق أم أنه يوحي إلى أجيال تلعب دورا أساسيا في التعريف بواقع الاستعمار وأن المهارة المارادونية متوافرة أيضا في أقدام الفلسطينيين؟ " المحتل لا ينام جيدا، لا لأن أضواء الأمم في نيويورك ساطعة، بل لأن طفلا فلسطينيا ولد قبل قليل وبكاؤه أزعج غولدا مائير، لو تتذكرون " ستيفان فالونتان يضع الكرة في ملعب الأمم المتحدة التي لا تلعب في بطولة نوادي الأحياء الشعبية، والتي لم تنفذ قرارا واحدا بخصوص فلسطين إلى يومنا هذا. كما يضع الكرة في ملعب السياسيين الفرنسيين الذين يدافعون عن أي أسير عسكري محتل يغامر خارج ثكنته ويرفعون الصور واللافتات له في الشوارع الباريسية، كأن أسر الجنود أثناء الحروب جريمة أكبر من أسر آلاف الأسرى الفلسطينيين. يستعمل الفيلم الكرة ليضرب بها عرض حائط الستة أمتار وكل المعتقدات الخاطئة عن الحياة بالأرض المحتلة، كما يقذف من عقولنا الصور المزيفة لبلد تتقلص حدود خريطته كل يوم منذ ستين سنة. فالونتان لا يخرج فيلما رياضيا عن فوائد الكرة لصحة الفلسطينيين، بل يدخل بالكرة إلى ذاكرة التاريخ المنسي لأول فريق وطني فلسطيني أسس عام ١٩٢٨ والذي شارك وقتها في تصفيات كأس العالم سنة ١٩٣٠. يراوغ الفيلم مشاهده بين اللقطات الجادة الرسمية المنددة وتلك التي تقتطف من وراء الأسلاك الشائكة براعم لوجوه باسمة لأطفال ملعبهم الشارع وجمهورهم اصطف على الرصيف. ثمة لقطة للقدس في وقت الأصيل تبدو كنصف كرة ذهبية مقدسة. المخرج فالونتانأبرز القرى والمدن الفلسطينية المسحوقة باسم التعويض عن جرائم النازية (الجزيرة) يخرج فالونتان من الأرشيف أسماء كهرتزل Herzl وروتشيلد Rothschild ومن والاهما في مباريات دامية طرد فيها السكان الأصليون وحلّ مكانهم سكان احتياطيون من أصل أوروبي. يتوقف أمام سجل القرى والمدن التي سحقت باسم التعويض عن جرائم النازية والتي لم يكن للفلسطينيين فيها دخل إطلاقا. ثم يشير بإصبع حاد إلى مواطنه الفرنسي ميشال بلاتيني رئيس الفدرالية الأوروبية لكرة القدم الذي استقبل من طرف رئيس دولة الاحتلال بخصوص البطولة الأوروبية لما دون 20 سنة المنعقدة عام ٢٠١٣. فإذا كان بلاتيني ماهرا في رفع الكرة فوق جدار لاعبي الخصم وتحدي حراس المرمى العالميين، فهل يعرف ماضي الرجل الذي يقابله؟ ماذا يعرف بلاتيني عن الهاغناه وشتيرن والأراغون؟ وهل نسي بلاتيني أن أباه مغترب إيطالي هرب من الفاشية إلى فرنسا؟ كيف لبلد غير أوروبي جغرافيا أن يحتضن ويشارك في بطولة أوروبا لكرة القدم؟ بلاتيني يتجاهل أن المخالفات يومية في الملعب المجاور المحتل منذ ستين عاما. " الفرق بين مارادونا وبلاتيني أن الأول ثوري والثاني سياسي نفعي. مارادونا يرفع راية الشعب المقهور وبلاتيني يزور رئيس الجيش القاهر. الأول مرفوع القامة والثاني مطأطئ الرأس " نسترجع التاريخ الحديث مع الناشط صلاح حموريSalah Hamouri الفرنسي- الفلسطيني الأصل والذي مكث بالسجن سبع سنوات ولم يحرك سياسيو فرنسا ساكنا، أولئك السياسيون المتشددون في قضية حرية المرأة وحرية التعبير وحرية الديانة والتي يمارسونها بتعصب بالغ إلا إذا خص الأمر سجينا يندد بسياسة المطرقة. ففرنسية حموري لا تساوي فرنسية الجندي المحتل رغم حمرة نفس جوازي سفرهما. "العالم ينقسم إلى جزءين" كما يقول كلينت استوود Clint Eastwood "" في أشهر فيلم ويسترني "الطيب، الشرير والأبله" The Good, the Bad and the Ugly و "هناك من يملك المسدس وهناك من يحفر، إذن أنت تحفر". في فيلم "مارادونا رام الله" يمكن اقتباس هذا ليصير "هناك من يملك القنبلة وهناك من يراها تسقط عليه". هناك من يريد قبرا لا يستطيع حفره، لأن السجين الفلسطيني إذا وافته المنية بالزنزانة ولم يكمل بذلك مدة حبسه المفروضة فإن الجثث لا تردّ إلى أصحابها حتى انتهاء مدة العقوبة، يقول صلاح حموري. في الشهر العاشر من ٢٠٠٨ انطلقت رسميا الكرة الفلسطينية يوم تدشين ملعب فيصل الحسيني بمباراة كان الضيف فيها الأردن الذي حاول المحتل دفعه بقوة لعدم قبول الدعوة. إن الحواجز ونقاط التفتيش المدسوسة بين الأحياء تمنع حضور اللاعب الفلسطيني تمارينه ومبارياته الأسبوعية، لأن الفاصل بين ناد وآخر لا يقل عن عشرين حاجزا يضيِّع فيها اللاعب ست ساعات بأكملها لقطع مسافة عشرة كيلو مترات فقط! " يستعمل الفيلم الكرة ليضرب بها عرض حائط الستة أمتار وكل المعتقدات الخاطئة عن الحياة بالأرض المحتلة، كما يقذف من عقولنا الصور المزيفة لبلد تتقلص حدود خريطته كل يوم منذ ستين سنة " ست ساعات ناقصة من عمره ومن عمر الكرة الأسيرة. وإذا كانت المباراة قرب مستوطنة لا يرغب أهلها أن يحاذيهم نشاط رياضي، فإن إطلاق النار مسموح ولا يعاقب عليه الجاني قتل أو لم يقتل برصاصه أنصارا أو لاعبين. الجدار المرتفع فوق القانون يمتد طوله ثمانمئة وعشرة كيلومتر كلف ٣,٣ مليار دولار كما دخلت في بنائه أكثر من ٥٠٠ شركة مختلفة. يختزل الجدار ١٢٪ من الخريطة السابقة مما تم الاتفاق على أن يكون دولة فلسطين. يغوص الفيلم في تمرين Mathematic حسابي تتراكم فيه الأرقام والنسب والتواريخ فيتحول الفيلم التسجيلي إلى سجل بقوائم وأسماء يستحسن التنويه إليها دون عرضها كلها. فلماذا يرقِّم ويفصل الفيلم في إحصائيات لا يفسر من فواصلها إلا المختص والمحترف أم أن السينما تتزود بهذه الدفاتر لتأكيد ثوريتها؟ هل الإكثار من التفاصيل المعلوماتية يشوش ماهية الصورة ومضمونها أم يزيدها تماسكا بموضوعها؟ هل يخرج الفيلم التسجيلي عن إطاره عندما يستنسخ مواد الريبورتاج التلفزيوني أم أن إدراج الأسلوب الإخباري يزيد الفيلم واقعية؟ صفارتا الحكم والإنذار تختلطصفارة الحكم وصفارة الإنذارأحيانا في فضاء لا تحلق فيه الطائرات للتصوير الفني. وبين أذان المغرب وفجره تفقد أجساد أرواحها بين نقطة تفتيش وأخرى. " لأن الكرة من اسمها كروية، يعود الفيلم إلى فرنسا، يعود إليها أكثر من قلب رام الله، ليقول إن فرنسا البلد الوحيد الذي يمنع فيه النداء لمقاطعة إسرائيل والمنادي بذلك يدخل المحاكم ويحاسب كمجرم " ستيفان فالونتان يمزج في تصويره بين السينما النضالية التي تعطي للمضمون كل أوراقها والفيلم التسجيلي المولع بحياة الناس واستئناسهم للكاميرا. "مارادونا رام الله" فيلم لشعب يعيش على خط التماس ولا يرى من الحرية إلا ضوءا يلامس الأسلاك الشائكة حول دياره. يدخل الشوط الثالث للفيلم على بلاتيني الذي يسد بيده الضوء على عدسة المصور في فناء الفندق اشمئزازا، كأنه يدرك أن لوجوده ما يستحق التصفير عليه وما لا يرضيه أن يسجل. الفرق بين مارادونا وبلاتيني أن الأول ثوري والثاني سياسي نفعي. مارادونا يرفع راية الشعب المقهور وبلاتيني يزور رئيس الجيش القاهر. الأول مرفوع القامة والثاني مطأطئ الرأس. الإضراب عن الطعام الذي نفذهاللاعب محمود السرسك بسجنهواحتجاج نجوم الكرة العالمية من Cantona كانتونا، rogba ودروغبا وKanout كانوتي وطرحهم مجددا فكرة المقاطعة والممانعة على الساحة الأوروبية، قد تبدو مهيضة الجناح أمام محتل لا يحفل بالأمم المتحدة. "مارادونا رام الله" يصور قصة شعب لا يرى من الحرية إلا ضوءا يلامس السلك الشائك (الجزيرة) غير أن المحتل لا ينام جيدا، لا لأن أضواء الأمم فينيويورك ساطعة، بل لأن طفلا فلسطينيا ولد قبل قليل وبكاؤه أزعج غولدا مائير، لو تتذكرون. ولأن الكرة من اسمها كروية، يعود الفيلم إلى فرنسا، يعود إليها أكثر من قلب رام الله، ليقول إنفرنسا البلد الوحيد الذي يمنع فيه النداء لمقاطعة إسرائيلوالمنادي بذلك يدخل المحاكم ويحاسب كمجرم. "حاصر حصارك لا مفر.." واجعل من كل ملعب بلدا. * مخرج جزائري مقيم في فرنسا المصدر : الجزيرة كلمات مفتاحية: مارادونا رام الله كرة القدم احتلال بلاتيني مقاطعة