محمد مهيب جبر الذي رحل عنا يوم الجمعة مناضل بالقلم، لم يتوقف عن الكتابة عن فلسطين، فحتى في مواقع التواصل الاجتماعي كان يكتب عن القضية الفلسطينية، وعن النضال والصمود في وجه الاحتلال، وعن المجتمع الفلسطيني الأسير لذلك العدو الغاشم، لم يكلّ ولم ينس فلسطين، ولم تزده سنوات البعد عنها إلا تشبثاً بها، كما تشبث بها بطله بيت مارتينيك، ذلك الرجل الكاريبي القادم من 6000 ميل ..تلك الأرض التي لا يعرف عنها سوى اسمها، وشذرات من حكايات كان والده يحكيها لهم قبل وفاته. في سنواته الأخيرة كتب جبر بغزارة كأنما كان يسابق أجله ليقول كلمته، وليوثق رؤيته في النضال وفي فلسطين، التي أرادها أن تبقى قطعة جغرافية، ومجتمعاً بشرياً ومفهوماً وطنياً، وحلماً نضالياً، وملكاً خصوصياً تورثه الأجيال للأجيال، ففي روايته 90-91، قارب هذا المفهوم في جانبه النضالي حيث رسم خريطة للنضال الفلسطيني والصراع اليومي مع الاحتلال، وتشابك شأن فلسطين وتقاطعه مع الأحداث السياسية الدولية والإقليمية. ففي عامي 1990- 1991 جرى توحيد شطري اليمن، وغزو الكويت، وحرب الخليج الثانية، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وكانت الانتفاضة الفلسطينية إذ ذاك على أشدها، وكانت التنظيمات السياسية تتصرف وفقاً لمسار الأحداث الخارجية، ووفقاً لمنطق الحياة الداخلية في الأراضي المحتلة، وحياة المناضلين الذين ارتبطت شؤونهم الخاصة بالقضية وأصبحوا يعيشون الانتفاضة في تفاصيل حياتهم اليومية، كما هو شأن الشاب عمر الذي توزعت حياته بين النضال والدراسة، واستطاع أن يتغلغل في شبكة عملاء إسرائيل ويكشفها، وتأثر حبه لوفاء بتقلبات سيرته النضالية، واضطر لترك الدراسة والالتحاق بصفوف المقاومين، وتخلص الرواية إلى أنه لا بديل للفلسطينيين عن النضال بكل أشكاله، وأن حياة الفلسطيني ما دام الاحتلال قائماً لن يكون لها معنى من دون ذلك النضال. وفي رواية 6000 ميل الحاصلة على جائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب 2013، يقارب جبر مفهوم فلسطين وطناً أبدياً للفلسطيني مهما باعده المكان عنها، ومهما تجذّر في مجتمعات أخرى، فيجعل من الحنين الذي يملأ قلب بيت مارتينيك لجذوره وسيلة لاستكشاف فلسطين الأرض والمجتمع وعبق التاريخ، فذلك الرجل الستيني المولود في جزر الكاريبي سيقطع تلك المسافة، ويعاني تعقيدات الاحتلال وتعسفه، لكي يتعرف على الأرض التي ولد فيها أبوه الفلسطيني وعاش فيها أجداده، ورغم المعاناة، فإن الاكتشاف كان عظيماً، فقد عثر على مجتمعه الحقيقي وناسه، والأرض التي ينتمي إليها، ووجد أن جذوره ممتدة في أعماق بعيدة، ولا شيء يمكن أن يقطعها، وكانبيت مارتينيك الذي يحمل اسم عائلة أمه، مزهواً بذلك الاكتشاف، وبأن لديه الآن جذوراً ووطناً سيورث حبه وانتماءه له لأبنائه. هكذا كانت كتابات جبر توثيقاً ضد النسيان، وضد محاولات شطب القضية أو الالتفاف عليها، أرادها أن تكون حية، ليس فقط في الداخل ومواجهة العدو، بل في الشتات ومواجهة التغير والنسيان الذي يصيب المهاجر وأبناءه، لكي تبقى بذلك لصيقة بالنفوس عصية على النسيان. dah_tah@yahoo.fr