رمضان في مكة المكرمة أحمد صالح حلبي أشعر بسعادة غامرة وأنا أسترجع الذكريات العطرة في شهر رمضان المبارك وأيامه ولياليه، وكيف كنا نعيش في جنبات الحرم المكي الشريف طائفين عاكفين مصلين فرحين بهذا الشهر الكريم، وقد كان لهذا الشهر الكريم رونقه الخاص في مكة المكرمة فما أن يقترب موعد قدوم شهر رمضان؛ حتى تبدأ الناس الاستعدادات لاستقبال هذا الشهر ويقبلون على المزيد من الطاعات فهذا شهر مبارك أكرمنا الله عز وجل بأن جعله شهر تشرف بنزول القرآن فيه فجاءت الآية الكريمة ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )) ثم يأتي الأمر الإلهي يوجب صيام هذا الشهر؛ حيث يقول فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَفَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وتظهر الرحمة الربانية والعطف الإلهي واضحة في قوله عز وجل ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)). وما أن يهل هلال الشهر الكريم؛ حتى ينادي المنادي ويتجول في الأسواق ويتنقل بين الحارات من أبواب الحرم إلى أجياد إلى المصافي إلى حارة الباب إلى الشبيكة إلى الشامية والفلق والقدارة وجرول وينحدر إلى المسفلة، ويستمر ينادي حتى يغطي أجزاء مكة معلنًا دخول رمضان والناس تتبادل التهاني، وتبدأ من أول ليلة في الاتجاه إلى الحرم لصلاة التراويح، وتتم المصالحات وتعم الأفراح في النفوس والتواصل بين الأهل والأرحام والجيران وبين العمدة عند باب الحارة وحوله أكثر من نقيب ويبعث من يسأل عن العوائل التي سافر عائلها لعمل ليوصل إليهم ما يحتاجون إليه من حاجات ويضعها عند باب المنازل ويناديهم ياأهل البيت العمدة أرسلني لكم والزنبيل عند الباب وفي الصباح تتغير العادات؛ حيث يكف الناس عن الأكل والشراب وتغلق المطاعم وخاصة دكاكين الفول والمقلية والزلابية والمقادم ويستعدون لأكلات الإفطار والوجبات الرمضانية وفي مقدمتها الفول والشريك وعيش الحب والشربة والقطايف واللقيمات. ويقبل الناس على شراء ما يلزمهم من مقاضي وتستعد النساء لإعداد الطعام في المنازل ويذهب الناس إلى المسجد الحرام ويجلسون حول الكعبة متحلقين وأمام كل مجموعة منهم سفر معروفة لآل فلان وآل فلان حيث يدخلون الحرم ويظلون هناك إلى ساعات الإفطار. ويأتيهم بعض العبيد والخدم بالطعام قبل المغرب يأكلون من حولهم وهم في راحة وسعادة جلوسًا أمام المطاف وأمام باب بني شيبة وبجوار المعجن والحطيم والمقام، وبعضهم يقف ويلزم الملتزم ويدعو عنده إلى قرب رفع أذان المغرب ويأتيهم الزمازمة في حصوات الحرم وبعض الأروقة وهم يحملون الدوارق وفي أيديهم الطاسات لسقيا الناس وكل زمزمي يتحزم بحزام مميز ولهم عمائم خاصة تختلف عن عمائم العلماء والفقهاء وما أن يحين وقت الأذان؛ حتى ترتفع أصوات الأذان من المنابر السبعة في أرجاء الحرم بأصوات شجية وجميلة. ولم يكن هناك ميكروفونات ومكبرات للصوت وكان المؤذن يدور حول المنارة في أعلى جزء منها ليسمع أذانه فكان بعضهم قوي الصوت حتى إنه يسمع في أطراف المسلفة وأعلى جرول ناهيك عن الحواري المحيطة بالحرم، وتبدأ الناس في تناول طعام الإفطار وهم ينظرون إلى الكعبة المشرفة ويحنو بعضهم على بعض وكان الجميع يحرصون على البقاء حتى صلاة العشاء ليصلوا مع الإمام صلاة العشاء والتراويح، ثم ينصرفون، والبعض ينصرف بعد صلاة المغرب ويعودون قبل صلاة العشاء. وقد كان رمضان ـ كما سمي من الرمض ـ ذو حرارة فقد كان أصحاب محلات بيع الثلج يستعدون لتوفيره للناس الذين يقبلون على شرائه من أجل الماء البارد ومن أجل السوبيا وهما شرابان من الشعير والزبيب يرتاح لشربهما أهل مكة وخاصة في رمضان، وفي المساء كان هناك جلسات لبعض كبار رجال الحارة يتسامرون ويستمعون للروايات والقصص وأعذب الحديث ويتبادلون بعض قصائد الشعر، وكان لهم مركاز في المسفلة يسمي قهوة صالح عبد الحي يجتمعون فيه للسمر وحتى في الأيام العادية وليس في رمضان فقط وكان يضم صفوة من الأدباء.. وكانت من عادات أهل مكة أيضًا إنهم يسألون عن جيرانهم وأهلهم ويتفقدونهم، ويبعث الجيران لبعضهم البعض ألوانًا من الطعام توضع في إناء يسمى بالمطبقية وهو إناء متعدد الأدوار ويحفظ فيه الطعام ومن العادات التي تميزت بها مكة المكرمة بصورة عامة في الماضي وقبل أجهزة الإعلام أن المسحراتي يدور بين الحارات، كما المنادون يدعون الناس إلى الاستيقاظ وتناول السحور ويردد (سحورك.. سحورك يا صايم سبحان الدائم..). وكان أهل مكة يقبلون على قراءة القرآن في شهر رمضان أكثر من أي شهر أو أي وقت آخر وكانوا يتبارون في حفظ القرآن وختمه قبل نهاية الشهر، والبعض كان يرتاد حلقات تدريس القرآن والحديث في أروقة المسجد الحرام؛ حيث كان العلماء ينتشرون عند أبواب الحرم من الداخل بعضهم يقرأ صحيح البخاري ويفسره وبعضهم يقرأ صحيح مسلم وبعضهم يدرس الفقه والتفسير، وكان من الذين تعايشنا معهم السيد علوي المالكي عند باب السلام، والسيد محمد العربي التبعاني عند باب الدريبة، والشيخ محمد نور سيف عند باب الوداع، والسيد محمد أمين كتبي عند باب جياد، والشيخ المنديلي يدرس طلاب أندونيسيا عند باب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهكذا ينتشرون في كل مكان. وكان من عادات أهل مكة أن يذهبوا إلى الحرم لحضور الحلقات التي تعقد بين العصر والمغرب والبعض يذهب بعد ذلك للطواف بالبيت العتيق وهكذا يعيشون في فرحة وسعادة، وينهلون من مناهل العلم ويتتلمذون على أيدي العلماء. ومن العادات التي تعودها أهل مكة الحرص على أداء عمرة في رمضان إما من منطقة التنعيم وهو المكان الذي أحرمت منه السيدة عائشة -رضي الله عنها- وأرضاها عندما قدمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع أو من الجعرانة وهو مكان نزل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومر به عند فتح مكة. ويحرص الكثير من الناس على أداء العمرة من منها. وعند حلول العشرة الأخيرة يقبل الناس على الاعتكاف في المسجد وصلاة التهجد ويشعر الإنسان منهم بفرحة خاصة حتى إن بعضهم لا يكاد يفارق الحرم إلا لقضاء حاجته حتى قدوم العيد وتضرب مدافعه ويختم القرآن في صلاة التراويح والتهجد ويبدأ الناس في الاستعداد لاستقبال العيد وإعداد ملابسه والعناية بصورة خاصة بملابس الأطفال، وكان الكل يحرص على الملابس الجديدة كل على قدر إمكاناته وكان أهل مكة يقسمون رمضان إلى ثلاثة أجزاء العشر الأولى عشر الجزارين وفيها يقبل الناس على شراء اللحوم لعمل الشوربة والسامبوسة، والعشرة الثانية عشرة القماشين وفيها يشتري الناس ما يحتاجون إليه من أنواع القماش لعمل ملابس العيد للنساء والرجال والأطفال، والعشرة الأخيرة تسمى عشرة الخياطين وفيها يتوافد الناس على الخياطين لخياطة ملابس العيد. أما العيد فقد كان من المعروف إن أيامه في مكة هي ثلاثة أيام وفي بعض السنوات أصبحت أربعة أيام، وفي اليوم الأول تتناول كل عائلة طعام الإفطار مع بعضهما البعض وفي بعض المناطق مثل وادي فاطمة وجرول وما بعد جرول وفي المسفلة في طريق الليث وفي شمال عرفات كان هناك مجموعة من أهل القرى يسكنون هذه المناطق وهم في أول يوم العيد يتناولون الغذاء مع بعضهم البعض في وقت مبكر وأكلات دسمة تقدم فيها الخراف والجمال أما عند أهل مكة فيكتفي بأطعمة تقليدية مثل الجبنة والدبيازه وهي طبخة مكية تضم أنواعًا من المكسرات مع قمر الدين والزبيب وبعض أنواع من العريكة والفول والمطبق وطبعًا كل على قدر طاقته وحاجته.. وعادة ما كان تبادل المعايدة في أول يوم بين الأهل والأقارب وفي اليوم الثاني لأهل جياد والقشاشية واليوم الثالث لزيارة الشامية والنقا وشعب عامر، ,الرابع لزيارة الشبيكة وجرول والمعابدة. وكانت كل الحواري تضم ألعابًا وتخصص أماكنًا للألعاب الخاصة بالأطفال وهي ألعاب بسيطة مثل (المدارية) وهي أنواع بسيطة من المراجيح وبعض الألعاب البسيطة الأخرى. وكان من العادات خروج شباب الحارة ومن يسمي بالمطاليق؛ لتعد جلسات وحلقات المزمار في كل حارة وقد تدعو أي حارة حارة أخرى للعب معهم وللعبة المزمار أصولها وقوانينها وإذا حصل خلل قد يؤدي إلى (مقاشعة) وخصام فلابد من دخول العقلاء لإيقاف خصام الشباب وكان من أشهر من عرفت في هذا المجال الشيخ عبد الله بصنوي، والشيخ عمر عيوني، والشيخ جميل نصراوي، والشيخ محمود الماس، والشيخ حسن أبو عدس، والشيخ بدر الله مكاوي، والشيخ القري، والشيخ سعد طفران، والشيخ عبد القادر شاه، والشيخ حمزة عالم، والشيخ حمزة غندورة، والشيخ أبو رزيزة، والشيخ طلال حسان، والشيخ سعد ربيقان. هذه ملامح ولمحات خاطفة عن بعض ملامح رمضان في مكة المكرمة، وأسأل الله أن يتقبل طاعاتنا وصيامنا وقيامنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.