معركة واترلو رسمت وجه أوروبا. فهي معركة دراماتيكية: كان نابوليون من غير سند ولا مؤن، على نحو لم يخفَ أعداؤه. وهي أول معركة بين جيوش أكبر قوتين أوروبيتين: بريطانيا العظمى وفرنسا، تتواجهان وجهاً لوجه في معركة ضخمة. والصدام دار في مكان لا تتجاوز مساحته بضع مئات كيلومترات مربعة. والمعركة قصيرة وعنيفة وغامضة. وعلى رغم أنها خلّفت ندوباً في الذاكرة الفرنسية وشعوراً بالمهانة، لا شك في أن معركة واترلو هي هزيمة بهية ومجيدة: فأوروبا كلّها اضطرت الى رصّ الصفوف لمواجهة فرنسا وكسر شوكتها. ومن موسيه الى ستاندال، وشاتوبريان ودوم الى فيتكور هوغو، بادر الكتّاب الفرنسيون الى الاحتفاء بواترلو وتمجيدها. وتناولوا قدرات نابوليون العظيمة، ودار كلامهم على المجد الوطني وقبح الحرب وعظمتها. وهزيمة نابوليون هي ختام الثورة الفرنسية. فهي ختمت دورة سياسية بدأت في 1789. والثورة كانت من بنات القرن الثامن عشر وأفكاره ورجاله. واترلو هي في مثابة فاتحة القرن التاسع عشر، على نحو ما كان الأول من آب (أغسطس) 1914 (تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى) فاتحة القرن العشرين. وافتتحت هزيمة الأمبراطور ونفيه عهد سلام غير مسبوق في القارة القديمة. وخرجت بريطانيا وبروسيا والنمسا وروسيا أقوى من معركة كادت أن تطيح بها. والردّ المعادي للفرنسيين شدّ اللحمة الوطنية الفرنسية، وعزّز مكانة الملوك الذين يمثّلونها. وذاعت أفكار الثورة الفرنسية، وتلك التي لقيت صدى لها في الحضارة الأوروبية على وجه التحديد. وكان القانون المدني (أو المدونة المدنية) نافذاً في أصقاع الأمبراطورية الفرنسية، وضمنها بلجيكا وقسم من إيطاليا. وخرجت المجتمعات التي احتلّها نابوليون من تجربة الاحتلال وهي أكثر انفتاحاً على الحداثة والليبرالية. وسرى التوتر بين الملكية والأفكار الديموقراطية في أوروبا. وأجمع مؤتمر فيينا (الذي شاركت فيه فيينا ولندن وبرلين وسان بطرسبرغ وفرنسا لويس الثامن عشر) على الاتحاد في مواجهة الحركات الليبرالية والوطنية. ونظمت لقاءات دورية بين الحكام لإدارة أزمات العصر. وأعلن حياد أجزاء من أوروبا (سويسرا ومنطقة الراين). وساهم مؤتمر فيينا في الحؤول دون نشوب حرب عامة في أوروبا طوال قرن، على رغم اندلاع نزاعات محدودة. والحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر بلغت ذروة تاريخية في القارة القديمة: التطور والتقدم والعلوم والفنون والآداب. واترلو هي تاريخ نصر بريطانيا على فرنسا، ورجحان كفتها في الهيمنة الدولية. وهي نهاية نزاع شبه متواصل (قطعته أكثر من هدنة) من ثلاث مراحل بين البلدين، بدأ في 1750 وانتهى في 1815. والحرب الأولى بين الفرنسيين والبريطانيين، عُرفت بحرب السبعة أعوام، وكان النصر من نصيب بريطانيا. وانتقمت فرنسا من غريمتها في حرب الاستقلال الأميركية. ثم ألحق بها الإنكليز الهزيمة في 1815. وكرست واترلو هيمنة بريطانيا طوال قرن. فأمسكت بريطانيا العظمى بمقاليد طرق التجارة الدولية. وفي 1840، تقرّبت إنكلترا من فرنسا التي لم تعد مصدر خطر عليها، وسعت الى «تفاهم ودي». ولويس – فيليب ساهم في إبرام هذا التفاهم. فهو عاش في إنكلترا حين كان في المهجر ومال إليها. ورمز هذه المصالحة هو عودة رفات نابوليون الى فرنسا في 1840. ونظّمت مراسم ضخمة حين استقبال الرفات. وسار نابوليون الثالث والجمهورية الثالثة على خطى لويس – فيليب في سياسة التفاهم مع لندن. وشاب بعض التوتر العلاقات البريطانية – الفرنسية إزاء مسألة الشرق في 1840 وغيرها من المسائل. ونابوليون قلب خارطة ألمانيا رأساً على عقب، وفكّك بنيتها المركبة والمعقّدة. ووُلد من رحم الاحتلال النابوليوني لألمانيا، احتمال توحّد البلاد تحت راية بروسيا. ففي 1806، أطاح نابوليون البروسيين في حملة صاعقة وسريعة دامت ثلاثة أسابيع. وقررت برلين التعاون مع نابوليون، في وقت كانت تعدّ العدة و «تبني» جيشها للانتقام منه. وانعقدت ثمار السياسة الألمانية في 1813. وعبر الفرنسيون ألمانيا في 1809، في طريقهم الى مهاجمة النمسا. ونظر الألمان الى العمليات الفرنسية على أنها مهينة ومذلّة. ونفخت مشاعر المهانة في القومية الألمانية، فبرزت واشتدّ عودها في حرب يسميها الألمان «حرب التحرر الوطني» (1813) ضد المحتل الفرنسي. وعشية واترلو، لم يرغب ويلينغتون في ملاحقة الجيش الفرنسي المهزوم. ولكن البروسي بلوشر، أصرّ على ملاحقته وذبح ما في وسعه من الجنود الفرنسيين. وسادت كراهية الفرنسيين في ألمانيا. ووزن هذه الكراهية كان ثقيلاً في 1870 والحرب العالمية الأولى. وأغفل نظام الثاني من تموز (يوليو) الملكي والأمبراطورية الفرنسية الثانية، عداء البروسيين إزاء فرنسا. ووقع المثقفون الفرنسيون في القرن التاسع عشر من رنان الى تان وكوزان، في شباك ألمانيا، واعتبروها موئل أو موطن الفلسفة والعلوم والثقافة والقيم الليبرالية. وعمّت مشاعر الذهول الفرنسيين حين اندلعت الحرب الفرنسية - الألمانية (1870 - 1871). وكان عدد سكان فرنسا حوالى 28 مليون نسمة الى 30 مليون في 1789. ويقدر أنها خسرت في ثلاث وعشرين سنة من الحروب بين 1792 و1815 نحو مليون ونصف المليون قتيل. وهذا الرقم يشمل الضحايا المدنيين في الحرب الأهلية خلال الثورة وحملات الثورات في 1792 و1799، ونزاعات القنصلية والأمبراطورية. وثلثا القتلى وقعوا في عهد الأمبراطورية. فمنذ معركة إيلو في 1807، نحت معارك نابوليون أكثر فأكثر منحى دموياً. ووراء ارتفاع عدد الضحايا وثقل الخسائر الإنسانية، هو توسّل سلاح المدفعية توسلاً شاملاً. وهذه المرحلة هي فاتحة تباطؤ النمو السكاني الفرنسي. والركود السكاني في فرنسا هو أبرز سمات القرن التاسع عشر.