يقودني التأمل في مستقبل داعش المنظور بإذن الله، وموقعنا منه، للقول بما يلي: أولا: نهاية مشابه نسبيا لنهاية القاعدة فعدد من أشكال التمكين في نشأة داعش تتماثل فيها مع القاعدة، من حيث أمور أهمها، الفكرة الدينية، وتكفير الخصوم، وعالمية الولاء، ورمز الدولة أو الجماعة، والعدو المعلن، وعالمية المعركة. لكنها بالتأكيد تختلف مع القاعدة في أمور (نسبيا) فقط أهمها نسبية الفتك بالخصوم، ونسبية الجغرافيا والدولة، ونسبية نمط الحكم، ونسبية الولاء والبراء، ونسبية قواعد اللعبة السياسية والاستخباراتية. بناء على ذلك أعتقد أنه لا يزال لداعش عمرا مديدا، نسبيا أيضا، وسأعود لموضوع النسبية هذا. ثانيا: التحول من الإسلامي للسيادي. يمكن تأكيد أن القاعدة حققت أهدافها، عبر شيطنة الإسلام، وإعلان الحرب عليه كفكرة. أما داعش فعلى انقاض الفكرة الإسلامية التي باتت متهالكة، وكذا في ظل تعزيز الخصام بين الطوائف والملل والتحل الإسلامبة، ستواصل داعش المشوار لهتك ستار سبادة الدول المستهدفة بداعش ولتغيير قسري للخرائط الفكرية والدينية والسياسية. وبالتالي ستتغير موازين السيادة في مناطق محددة من العالم أهما الشرق الأوسط بالتأكيد. ويبدو أن هذه التحولات لن تتجاوز العقد الحالي. وستكون هذه هي الورقة الأخيرة التي تلعبها داعش، لتتم تصفيتها ككيان، ويتوقف الدعم الدولي الحالي عنها. ثالثا: الدواعش الملتيناشيونال بعد نجاح الدول المركزية الغربية الداعمة لداعش، في تغيير قواعد السيادة في الشرق الأوسط، عبر بروز دويلات جديدة، وتمكين أنظمة جديدة، وفرض أزمات أهلية مستدامة في مناطق محددة من الشرق الأوسط، وبعد إسقاط مشروع داعش (الكيان)، سيحتفظ الغرب بالعديد من الدواعش متعددي الجنسيات، وسيتم تشكيلهم في جماعات صغبرة ناقمة، هدفها إثارة الشغب كلما كان ذلك مهما في أي بقعة من المناطق المهترئة السيادة في ما بعد داعش. رابعا: التشكلات الجديدة. ربما تشهد منطقة الشرق الأوسط في ما بعد داعش واقعا مختلفا تماما. فحيث استهدفت القاعدة بشكل عام الفكرة الإسلامية، تستهدف داعش الدول القائمة. وبالتالي، سيشهد الشرق الأوسط تحولات جذرية في شكل الدول القائمة حاليا، إما بعمليات تقسيم فعلية لصالح المنظور الجديد للسيادة بولاءاته وبراءاته، أو في تعزيز عدم التجانس المذهبي والعرقي، وبروز أنماط من الكونفدراليات الجديدة، مع بقاء هاجس الاختلاف معززا في سياقات تلك الدول. خامسا: تأجيج الخلاف لن تتم تصفية داعش قبل أن ينجح الغرب وتنجح داعش في تعميق الفجوة الفكرية التي أسست لها القاعدة، وتعزيز الخلاف الديني في المنطقة. وسيكون هذا ربما في حق مجموعة من الدول في المنطقة التي لن يكون لاستقرارها مصلحة غربية. ويقودني ذلك للاعتقاد بأن سياسة العصا والجزرة قد تستمر في ما بين الغرب ودول الخليج العربية، من الجانبين، وستكون دول الخليج أكثر الدول منعة ضد التهديد الداعشي الفعلي، ككيانات دولية، مع خطورة كبيرة على النسيج العقدي والفكري وما قد ينجم عنه من إعادة لصياغة المنظور الرسمي للكون والحياة. إن طبيعة العلاقات المعاصرة بين دول الخليج والغرب، تتميز بقدر من المصالح المتبادلة. كما أن قدرة دول المنطقة وبخاصة المملكة العربية السعودية على المحافظة على هذه العلاقة في حدود مقبولة عنصر مهم أيضا. كما أن القيمة الدينية للمملكة والأماكن المقدسة فيها تعد عناصر قوة لا أعتقد أن الغرب سيتجاهلها كمحور ارتكاز للمسلمين لا مصلحة في تهديدها. ومع ذلك، تبدو محاولة خلق إشكالات إستراتيجية حقيقية ممكنه في دول الخليج، سواء عبر إنشاء وتعزيز صراعات مع دول الجوار، أو مع بعض مراكز القوى في العالم. لكنني أظن أن الخيار التدميري للبنية الأساسية في الخليج لن بكون محبذا لدى الغرب لعقود قادمة. سادسا: كيف نتحكم نحن؟ السؤال المهم جدا، والحال كما يبدو وفق ما ذكرت أعلاه، والله أعلم، ما الأدوار التي يمكن أن تقوم بها الدول والمجتمعات في المنطقة، لتفويت الفرصة على مريدي الاختراق والفاعلين فيه (الغربيين الدواعش)؟ أعتقد أن منطقة الشرق الأوسط لم تواجه في تاريخها مثل ما تواجهه الآن من تحديات حضارية. ولا يمكن تصور النجاة بإذن الله إلا بمشروع قوي متين ومتعدد الأركان. فتبدوا الحاجة ابتداء لقيادة تملك إرادة المواجهة الواعية، وتملك زمام المبادرة، والرؤية الشاملة، والثقة، والحظوة لدى كافة القوى في المنطقة. ثم تعد هذه القيادة مشروعا قوميا عميقا، وفق كافة متطلبات إعداد هذا المشروع بما يتطلبه من مهارات سياسية ودبلوماسية وتوفيقية، وضمان كافة وسائل وأدوات نجاحه بإذن الله في توحيد الرؤية تجاه مستقبل المنطقة، وتحديث وتطوير أنماط الإدارة لكافة القضايا والعلاقات على أسس مصلحية محددة بدقة، وان يكون هذا المشروع مما تلتقي بشأنه إرادات الدول والمجتمعات في المنطقة باعتباره خيارا إستراتيجيا للمستقبل، وأن يصوغ هذا المشروع كافة تفاصيل التعامل مع التحديان، وتحديد المواقف منها، والإجراء تجاهها، وسن التشريعات الحامية، وتوفير المتطلبات وتعهدها بالرعاية على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية، والعلاقات مع الدول المركزية في العالم. بهذه الآلية (الصعبة جدا) على دول المنطقة، يمكن أن نجعل تأثير داعش نسبيا لصالحنا، عوضا عن أن نتقي شرها فقط، أو، لا قدر الله ،أن تفعل بنا فعلتها. وأي جهد دون ذلك سيكون غير ذي جدوى، وسيمنح داعش الفرصة لمزيد من العبث بمستقبلنا. فالغرب وداعش (نجح) في تجزئتنا بالقدر الذي لن يقدر أي جزء منا حاليا على الفعل منفردا. والله أعلم المصدر: منتدى اسبار