على طريقة الدكتور عبدالله الغذامي في التفرقة بين القبيلة والقبائلية بوصف الأولى معطى اجتماعيا طبيعيا والثانية حالة ثقافية متعصبة ضد الآخر، فإن التفريق بين الطائفة والطائفية يقترب من تفريق الغذامي؛ إذ تكون الطائفة معطى دينيا واجتماعيا طبيعيا في حين تكون الطائفية حالة عصبية، والعصبيات على رأي ابن خلدون إحدى محددات السياسيات العربية القديمة ويبدو أنها لا تزال منذ قرون على ما هي عليه حتى بعد ظهور الدولة الوطنية ذات الحدود الإقليمية المرسومة لكن لا تزال كثير من العقول العربية وفق سياقها التاريخي تدور وتعمل على تكريس حالة التفرقة، خصوصا مع تلك الدول التي كانت الفكرة الدينية تمثل لها فرصة في تفعيل ذاتها في الأوساط السياسية العربية، وعلى ذلك فكل دولة طائفية، أو تستغل الطائفية في صراعها مع الطوائف الأخرى، هي دولة دينية حتى وإن كانت ترفع خطابا سياسيا محايدا، كونها تجعل من طائفتها الدينية أصلا سياسيا، في حين تضع الطوائف الأخرى في مراتب أقل وحقوق أدنى من حقوق الطائفة الأصل؛ فضلا عن الصراعات التي تحصل بسبب هذا التفريق داخل حدود الدولة الواحدة، ومن هنا يكون التطرف المضاد في مقابل التطرف الأصل لتنشأ حروب الطوائف الدينية في العالم العربي كما نشاهده الآن، فحروب العرب اليوم تكاد تكون صراعا بين عدد من الأطراف المتطرفة ما بين سنة أو شيعة، أو أحزاب إسلامية متطرفة من داخل المذهب الواحد، ولعل الحالتين السورية والعراقية هما أعنف الحالات الفكرية والسياسية التي تمثلت من خلالها عمق الأزمة التي تعيشها التيارات الإسلامية المتطرفة بطوائفها المختلفة كنتيجة واضحة لمدى عدم تلاؤم هذه التيارات مع الواقع المعاصر؛ إذ تكون الطائفية القنطرة لعودة الدولة الدينية التي تعتبر خارج إطار علاقة الدولة الحديثة مع العصر بوصفها منتجا فكريا واجتماعيا معاصرا خلاف الدولة الدينية والطائفية كونهما من نتاج التاريخ وصراعاته الدينية والسياسية. في رأيي أنه لا يمكن فصل الدولة الطائفية أو الدينية عن بعضهما كونهما يفضيان إلى حالة واحدة: الاستبداد الديني السياسي، ضدا من تعددية الطوائف والإثنيات التي تنتشر في أعلام العربي من أقصاه إلى أقصاه حتى داخل حدود الدولة الواحدة، ولذلك فإن أزمة الدولة الدينية أو الطائفية -لا فرق- تكمن في الموقف مع المختلف معها في الفكر أو الطائفة أو الدين بوصفها هويات متعددة داخل الجسد الإسلامي أو الوطني. إنها أزمة الذات القاصرة مع الآخر المختلف بين الذوات الإسلامية المتعددة، كالمذاهب أو الأقاليم أو الأعراق المختلفة، ويصل التطرف أحيانا إلى نوع من التماس المسلح بين مختلف المذاهب الإسلامية كما حصل في العراق وسورية واليمن حاليا، أوالشتائم المتبادلة بين بعض رموز تلك الأطراف؛ بل تكاد رموز التسامح من داخل منظومة المذاهب لا تساوي شيئا عند رموز التطرف. ويبقى العالم الإسلامي يصارع في أكثر من مكان، وفي أكثر من قضية، فضلا عن صراع العالم الإسلامي مع ذاته وأطيافه المختلفة، وهنا تضيع مشاريع التسامح وأطروحات التعايش سدى. الطائفية والدولة الدينية تعودان إلى واجهة الصراع العربي/ السني، العربي/ الشيعي والدولة الفارسية لتكون أقطاب الصراع الثلاثي على أشده، فخلال السنوات الأربع الماضية كان عموم العرب في اختبار حقيقي حول تأزمات الذات وتأزمات الآخر وموقف الذات من ذاتها المختلفة، وموقفها من الآخر، أو ردة فعلها على مواقف مضادة من قبل الآخر. كان الناس أمام واقع الثورات والديموقراطيات لتختبر مدى تسامحهم، ومدى ارتباطهم بمفاهيم الدولة الحديثة. الذي حصل أنه جاءت الدولة الدينية كبديل متطرف للديموقراطية التي كان من المفترض أن تكون هي سيدة الموقف العربي. جاءت الدولة الدينية لتهدم كل ما يمكن أن يتفاءل به الفرد العربي من صلاح أوضاعه ولتعود الطائفية على أشدها بسبب تطاحن التيارات الجهادية السنية والميليشيات الشيعية، ولعل أقرب مثال لمفهوم الدولة الطائفية أو الدينية اليوم، بعد أن كانت وطنية، هي الدولة العراقية الحالية، فالحشد الشعبي يحمل في طياته طائفية شيعية مقابل طائفية داعش، وكلاهما لا يفرقان بين المذهب والدولة المسلحة فيصبح عموم السنة طائفيين بسبب (داعش) ويصبح عموم الشيعة طائفيين بسبب الحشد الشعبي، فهما يرتكزان على معطيات دينية ومذهبية لبناء دولة محددة الأطر بالطائفة. أثناء الثورات العربية كان البعض -إيمانا بفشله من العلمانيات العربية التي يراها هي سبب أوضاع العالم العربي التي جاءت الثورات ضده- يراهن على التيارات الإسلامية شيعية كانت أو سنية كبديل موضوعي لانهيار العلمانية في العالم العربي، رغم أنه لا علمانية حقيقية لدينا كعرب وإنما سياسات تأخذ من العلمانية والإسلامية على حد سواء ما يتوافق مع مصالحها الحزبية أو القومية لكي تبقى في سدة الحكم أطول فترة ممكنة. الرهان على الدولة الإسلامية المعتدلة كان رهانا خاسرا سرعان ما ثبت عكسه، لأن إسلام هذه التيارات هو إسلام حزبي طائفي وليس إسلاما عاما، أو هوية كلية جامعة، يمكن لها أن تجمع المذاهب كافة تحت إطار الدولة المدنية الحديثة. كان ظلال الدولة الدينية هو الذي امتد أكثر من ظلال الدولة المدنية، ولذا كانت النتائج كارثية حتى لم يعد خيار التيارات الإسلامية هو الخيار الذي يمكن له أن يتحقق على أرض الواقع إلا بعد مزيد من الدماء (داعش) كانت المثال الأبرز والتجلي الأوضح لعودة الدولة الدينية وابتعاد العرب عن الدولة المدنية. وتتمثل أزمة الدولة الدينية من الآخر في الموقف الرافض والمناهض للآخر مهما كان، حتى لو كانت القيم التي يحاول تبنيها الآخر تصب في صالح الذات الإسلامية كما هي فكرة التسامح أو التعايش بين الأديان والمذاهب والثقافات المختلفة على اعتبار حق الآخر في اختلافه كنوع من التعددية الفكرية والثقافية التي أصبحت فكرة رائجة جدا منذ أفكار ما بعد الحداثة. إن الصراع بين أشكال التطرف الطائفي قاد إلى احتراب ثقافي وسياسي خطير ذهب ببعضه إلى حد الاحتراب المسلح بين الثقافات على اختلاف مشاربها، وهو صراع ثمنه باهظ جدا، وما دام العقلاء لا يقفون موقفا صارما من أشكال التطرف هذه؛ فإننا لا نعدو مظاهر أخرى سوف تتكرر متى ما سنح الوقت بذلك.