صحيفة المرصد-أمينة خيري: في شارع شبرا الشعبي حيث يختلط الجديد بالقديم والممنوع بالمرغوب والحلال بالحرام وما يصح بما لا يصح، يصيح البائع الشاب منادياً على بضاعته الرائجة: لا تقول لي نانسي ولا هيفا البضاعة دي شاكيرا وكارديشيان. وتقول الكاتبة بحسب صحيفة الحياة يبدو المشهد للغريب مريباً بعض الشيء، لكنه لأهل المكان والزمان عادي جداً. فالبضاعة ملابس نسائية داخلية وبعضها خارجي لكنه أقرب ما يكون إلى بدلات الرقص الشرقية بالغة السخونة. وبينما تنبش جماهير النساء والفتيات في أكوام الدانتيل الأحمر والريش الأخضر والخرز الأسود، تتعلّق عيون المارة من الرجال والشباب بالبضاعة المثيرة كأنهم يشاهدون مقاطع من فيلم تصنيفه للكبار فقط. خمسينيون وأربعينيون فأقل وأكثر. بعضهم بصحبة زوجاتهم، وبعضهم الآخر يتأبّط أذرع الخطيبات والصديقات لكن العيون معلقة بالملابس الملقاة على الرصيف. الحقوقيون لا يألون جهداً في التفسير والتحليل. فبين معلّق نظرات الحرمان وآهات الاحتياج على شماعة الفقر، ومبرر التعليقات الخادشة الحياء والجارحة للإناث بتأخّر سن الزواج وتعسّف أهل البنات، ومرجع عوامل التدنّي ومفسّر أسباب الانحطاط بسياسات الدولة القمعية أو خطوات الحكومة العنجهية التي تدفع الرجال إلى الحرمان وتزرع في الشباب الإملاق. أما الرجال أنفسهم فينقسمون إلى قسمين لهما ثالث. الأول يرى أن الله خلق الذكور ليكونوا عبارة عن كتلة من الرغبات الجنسية المتصلة المتأججة، وأن على المرأة أن تراعي ذلك، وإن لم تفعل فعليها القبول بالنتائج. والثاني يؤمن بأن الله خلق النساء ليكنّ عبارة عن ساحة لتقديم الخدمات الجنسية للرجل أين ما وجد وكيفما شاء ووقت ما أحب، ومن ثم عليها تحمّل التبعات. أما القسم الثالث الآخذ في التضاؤل المستمر في الانكماش السائر نحو الانقراض، فهو ذلك الذي يرى أن الكائنات النسوية شأنها شأن الكائنات الذكورية لها مشاعر وأحاسيس وغرائز ورغبات، لكن الله ميّزها بعقل وفكر وتنشئة وتربية وتعليم ومجتمعات وقوانين وقدرة على السيطرة والتحكّم في الغرائز، وإن هذه الميزة اندثرت واختبأت وتقلّصت تحت وطأة ازدواجية المعايير التي ضربت المجتمع في مقتل. السيدات والفتيات المتكالبات على البضاعة المثيرة المتناثرة على الرصيف تراوح مظهرن بين المحافظ جداً والمحافظ إلى حد كبير والمحافظ إلى حد ما. وعلى رغم ذلك فإن التعليقات المتداولة بينهن والضحكات المتصاعدة من جمهرتهن والنكات التي لا تخلو من دلالات جنسية وإسقاطات ذات مغاز لا يفهمها (أو يفترض ألا يفهمها) إلا البالغون والبالغات وضلوع البائع الشاب في الحوار باعتباره في قلب المشهد، كانت أبعد ما تكون إلى الأجواء المحافظة وأقرب ما تكون إلى الأجواء المنفلتة. الانفلات الواقع في الشارع المصري وبين قطاعات كثيرة وفئات عدة ممن يفترض أنها محافظة أو متحفّظة مثل متخرّجي المدارس الدينية والعاملين في مهن ووظائف كانت تحظى بهالة من الاحترام مثل المعلّم والطبيب ومدرّب الرياضة والضابط، يؤكّد أن المجتمع يعاني ازدواجية مرضية في القيم والأخلاق والأولويات وأضعف حلقاتها هي المرأة والشابة والطفلة. صفحات الحوادث اليومية لا تخلو من حادث أو اثنين عن جريمة قتل ارتكبها زوج اكتشف خيانة زوجته وأم أولاده، أو واقعة زنا محارم، أو حادث اغتصاب أو اعتداء جنسي بعض أبطالها معلّم المدرسة أو أستاذ الجامعة أو مدرّب الرياضة. وحتى خارج صفحات الحوادث حيث صفحات التعليم والصحة والفن والسياسة تمتد المعايير والقيم المتضاربة التي سارت في المجتمع المصري يداً بيد منذ ثمانينات القرن العشرين. انتشرت الأزياء المحافظة للمرأة، وتعالت دعوات الفصل بين الفتيات والفتيان في المدارس وبين الشباب والشابات في الجامعات وبين النساء والرجال في عربات المترو. وظهر من يطالب بتزويج الطفلة في سن التاسعة باعتبار ذلك أمراً شرعياً، وبزغت أصوات تطالب بمنع الفتيات من تلقّي التعليم الجامعي إن كان ذلك يعني اقامتهن في مدينة جامعية خشية أن تفسد أخلاقهن وتأجج الشهوات. وفي الوقت عينه، تفاقمت نسب التحرّش بالإناث في الشوارع ووسائل المواصلات والأماكن العامة (تتراوح نسبة النساء اللاتي يتعرّضن للتحرّش بين 80 و90 في المئة وفق دراسات أجريت في السنوات الأخيرة). كما انتشر نمط غريب من حوادث العنف الجنسي وجرائمه، لا سيما تلك التي تُرتكب من جانب أشخاص ذوي قربة أو سمعة اجتماعية جيدة. والغريب أن هذا التناقض المزعج قوبل بسكوت وسكون وقبول مجتمعي غير منطقي، حيث حمّلت المرأة الجانب الأكبر من عبء التردي الأخلاقي والانحدار السلوكي. وفي خضم تدنّي السلوكيات الشارعية بطريقة مذهلة في السنوات التي أعقبت ثورة يناير، والتي أزاحت ستار الخوف عن كثيرين ما أدى إلى ترجمات شخصية للحرية على اعتبار أنها تضييق على المرأة سواء بالتحرّش الجنسي أو التربّص بها جنسياً، مع الاستعانة بفتاوى متطرّفة أو تعليلات مجتمعية مريضة. وعلى رغم أن السنوات الأخيرة شهدت حماسة واضحة من قطاعات مختلفة من النساء والفتيات للتخلّص من الأحكام الجزافية الصادرة عليهن منذ الثمانينات، حيث ردة في مكاناتهن الاجتماعية والتعليمية تحت ستار اجتهادات دينية متطرفة، أو تضييقات مجتمعية مضللة، أو تجاهلات حكومية متعمّدة لإراحة هؤلاء وإرضاء أولئك، إلا أن المرأة في مصر لا تزال الحلقة الأضعف في فصام المجتمع المنغلق، المنفتح، المحافظ، المنفلت، مكللاً بفتوى تجيزه وانفلات مسموح لو كان خلف أبواب موصدة أو على أرصفة شبرا، حيث النكات الخارجة والنظرات المتربّصة والسيدات المحافظات في زمن الانفلات.