في الرابع عشر من أبريل (نيسان) وفي ذروة الضرب الذي تقوم به قوات «عاصفة الحزم» ضد الميليشيات الإرهابية الانقلابية باليمن تم التصويت على مشروع القرار الخليجي في مجلس الأمن، وتم إقراره بالإجماع، واكتفت روسيا بـ«الامتناع عن التصويت»، تحدّث أمين عام حزب الله بعدها منكسرًا بسبب الموقف الروسي المدوّي الذي يعبّر عن انعطافة معيّنة تجاه ملفاتٍ تمسّ مصالح السعودية والخليج، وحين سئل السفير عبد الله المعلمي عن السرّ في الموقف الروسي الإيجابي قال ببساطة: «تحدّثنا معهم». إنه القرار (2216). يستعاد الآن مسار العلاقات بين البلدين، وهو تاريخ ضارب في القدم، ويعود إلى العام 1926 عندما اعترف الاتحادالسوفياتي آنذاك بالمملكة العربية السعودية ليصبح أول دولة في العالم تعترف بقيام المملكة، وفي عام 1930 تم تحويل القنصلية السوفياتية في جدة إلى سفارة. وفي عام 1932 قام الملك فيصل بن عبد العزيز حين كان نائبا للملك في الحجاز بزيارة للاتحاد السوفياتي، بينما كانت الزيارة التاريخية للملك عبد الله بن عبد العزيز بوصفه وليًا للعهد آنذاك في سبتمبر (أيلول) عام 2003 هي الرافعة للعلاقات بين البلدين حينها. ليقوم من بعده الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة إلى موسكو في يونيو (حزيران)2006 حين كان أميرا لمنطقة الرياض. وهكذا في زياراتٍ توالت للأمير سلطان بن عبد العزيز، وابنه الأمير بندر، والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السابق. بين السعودية وروسيا الكثير من المصالح والأهداف المشتركة، والاختلاف على بعض الملفّات والبرامج لا يعني استحالة التعاون، وقد أثبتت مواقف روسيا الكثيرة ومنها ما يتعلق بالربيع العربي وأحداثه، وكذلك التحوّل المصري بعد 30 يونيو أن هناك إمكانات لتأسيس شراكة سياسية واقتصادية تتجاوز فيها السعودية التحالفات الكلاسيكية القديمة المعتادة، لتصل إلى الصين وروسيا، وهذا ما تفسّره زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي، الذي استهلّ هذه الزيارة التاريخية لإتاحة أرضية خصبة للنقاش والتشارك وعلى رأس ذلك التعاون العسكري، والاقتصادي وفي مجالات الطاقة، وروسيا من دعاة الحرب على المنظمات التطرفة بما فيها تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش»، باعتبارها ممن تضرر من هذه التنظيمات منذ ثلاثين سنة في مناطق كثيرة من الجمهورية الروسية. من الطبيعي أن تكون روسيا مقصدًا للأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، ذلك أن صناعة صيغ تواصل جديدة مع الدول القوية في العالم يعد سلوكًا واضحًا في عهد «الإدارة الذكيّة» التي سرّعت من الإنجازات الداخلية، وتحاول تجريب أسس أخرى للتعامل مع المشكلات الإقليمية، وروسيا براغماتية من الطراز الأول وهي تريد الوصول إلى أنماط تعامل مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية لتعزيز الاقتصاد والنفوذ. وقبل أيام وافق مجلس الوزراء على تفويض رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية - أو من ينيبه - بالتباحث مع الجانب الروسي في شأن مشروع مذكرة نوايا مشتركة بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ووكالة الفضاء الروسية في جمهورية روسيا الاتحادية للتعاون في مجال استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه للأغراض السلمية، والتوقيع عليه، ومن ثم رفع النسخة النهائية الموقعة لاستكمال الإجراءات النظامية. كل تلك الإمكانات والعلاقات والشراكات بين البلدين ستعززها الزيارة، والاختلافات على بعض الملفات لا تعني عدم نقاشها مرارًا، أو الاتفاق على ملفّاتٍ أخرى، والدبلوماسية السعودية اشتهرت بالممكن، ومن العبارات التي ما فتئ الملك الراحل فهد بن عبد العزيز يكررها: «ما لا يدرك كله، لا يترك جلّه»، هناك إدارة ذكيّة سريعة في السعودية لا تعرف معنى لإضاعة الوقت، أو الرهان على السنين لإصلاح العلاقات، بل تدفع باتجاه الحلول السريعة، والبحث عن مخارج حقيقية لكل اختلافٍ أو جمودٍ يشوب علاقاتٍ مع دول وقوى كبرى، وهذا ما يؤسس له الأمير محمد بن سلمان الذي يزور روسيا وبيده الكثير من النقاط والمشاريع والحوارات والأسئلة التي سيناقشها هناك. ثمة دراساتٍ كثيرة تتحدث عن الإرادة الروسية للنفوذ بالأصقاع لغرض تثبيت توازن القوى، بمقابل «الهيمنة» التي تمثّلها الولايات المتحدة على النحو الذي يذكره أستاذ العلاقات الدولية أرتيوم لوكين في كتابه: «روسيا وتوازن القوى في منطقة شمال شرقي آسيا» وفيه يشير إلى ضرورة قيام موسكو بتحركاتٍ استراتيجية للمنافسة الجيوسياسية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة. ولنتذكّر التعاونات الروسية الناجحة مع دول عربية مثل الجزائر الذي نقل بوتين العلاقة معها إلى الذروة، فزيارته لها عام 2006 كانت هي الأولى لرئيس روسي منذ عام 1969. وفيها تم الإعلان عن تعاون بمجال الطاقة ومن بعد نتج عن الزيارة توقيع مذكرة تفاهم بين شركتي «سوناطراك الجزائرية» و«غازبروم» الروسية، وهي اتفاقية تاريخية لبلدين يمدّان قارة أوروبا بالغاز. زيارة الأمير محمد بن سلمان تعيد إلى الأذهان الزيارة التاريخية للملك فيصل في الثلث الأول من القرن العشرين، لتذيب الجمود، تعمل على فتح آفاقٍ أخرى، ومن ثم التأسيس لدروب غير التي سلكت من قبل، وذلك من أجل تجاوز التململ الأميركي من المنطقة وتقصيرها الواضح مع الحلفاء. الاقتصاد يمكنه أن يؤسس تحالفات طويلة الأمد، والسعودية من أغنى دول العالم، وتستطيع أن ترسم استراتيجيات جديدة في المنطقة وقد بدأت ذلك بالفعل للحد من التهديدات التي تشكّلها إيران وأذرعها، ولتقوية الترسانة العسكرية للحفاظ على الأمن القومي والدفاع عن البلاد، والتطوير لمجالات الطاقة والعلوم والتقنية بالتعاون مع دولة بحجم روسيا وغيرها. في عام 2005 وفي كلمة أمام مجلس الأمن، قال الرئيس الروسي: «إن الطاقة اليوم هي نموذج القوة المحرّكة الأهم للتقدم الاقتصادي العالمي». هذي هي الفكرة الأساسية، أن بلدين كبيرين من دول العشرين في العالم يؤسسان لشراكة جديدة بزيارة استثنائية بسياق آخر، وبمنطقة تعاد رسم خرائطها على أسس القوة والمزاحمة والتحدّي والنفوذ.