بحلول 25 أيار (مايو) أكمل لبنان عاما دون رئيس وهي أطول فترة يظل فيها الموقع شاغرا منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990. وبعد انتهاء فترة الرئيس السابق ميشال سليمان العام الماضي اجتمع البرلمان اللبناني الذي يختار الرئيس 24 مرة وأخفق في كل منها في اختيار رئيس جديد للدولة. ويقوم النظام السياسي اللبناني على الصفقات التي تبرم بين أحزابه السياسية وطوائفه الدينية الكثيرة ومن يساندونها في الخارج. لكن التوصل إلى توافق في الآراء في لبنان بات صعبا إذ تقف التكتلات القوية وراء أطراف متصارعة في الحرب الأهلية الدائرة في جارته سورية. فقد أرسل حزب الله وهو الحزب الشيعي المهيمن في لبنان آلافا من مقاتليه لمساعدة نظام الرئيس السوري بشار الأسد بينما يرسل معارضو حزب الله السنة الأموال والمتطوعين للقتال في صفوف المعارضة والجهاديين. ويتهم كل فصيل لبناني الآخر بأنه يخدم سادته في الخارج. فلبنان بالقطع جزء من حرب بالوكالة تدور في المنطقة تقف فيها إيران التي تدعم حزب الله وحلفاءه المسيحيين في مواجهة أنظمة عربية سنية أخرى تدعم تحالفا من الأحزاب السنية والمسيحية. ورغم أن إيران ما زالت تتدخل بقوة في لبنان إلا أن تركيزها ينصب أكثر على صراعاتها بالوكالة في مناطق ترتفع فيها الرهانات حاليا: سورية والعراق واليمن. ورغم أن القوى الخارجية لها دور في الشلل السياسي الذي يعانيه لبنان الآن إلا أنها لا تتحمل كل اللوم. فاللبنانيون في الأغلب هم من فعلوا ذلك بأنفسهم وعليهم التوصل إلى تسوية سياسية خاصة بهم. وإلا يمكن للصدع السني الشيعي في لبنان أن ينفجر خاصة أن عشر سنوات من إراقة الدماء على أسس طائفية أذكته في العراق وأخيرا في سورية. واليوم يسير لبنان في الاتجاه نفسه ببطء مثلما فعل خلال معظم سنوات العقد الماضي منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في شباط (فبراير) عام 2005. وبسبب الصراع السوري الدائر في الجوار والأزمة السياسية بسبب الرئاسة تأجلت الانتخابات البرلمانية التي من المفترض أن تجري كل أربع سنوات إلى عام 2017 على أقرب تقدير. ومنذ انتهاء فترة البرلمان الحالي في 2013 صوت المشرعون اللبنانيون مرتين لمصلحة بقائهم في مقاعدهم. ويقوض هذا الكتل الأساسية في بناء واحدة من دول قليلة تتمسك بتقليد الانتخابات الديمقراطية. وخسر حزب الله الذي يقدم نفسه على أنه حركة وطنية إسلامية شاملة كرست نفسها لمحاربة إسرائيل الكثير من مصداقيته في العالم العربي السني بقتاله في صفوف نظام الأسد الوحشي. ويخوض الحزب حربين على جبهتين: فهو يحارب مسلحين في سورية ويحاول احتواء هجمات تشنها جبهة النصرة جناح القاعدة في سورية وجماعات جهادية أخرى نقلت المعركة إلى داخل لبنان. والمأزق السياسي الراهن ينفر مانحين دوليين تحتاج إليهم البلاد لمساعدة الحكومة على التعامل مع توافد أكثر من مليون لاجئ سوري. والرئاسة اللبنانية مهمة أيضا لأسباب رمزية: فالمنصب مخصص للمسيحيين لتكون لبنان بذلك الدولة الوحيدة في العالم العربي التي لا يترأسها مسلم. وبشكل أوسع يمكن للمأزق السياسي في لبنان أن يتطور سريعا إلى عنف طائفي. واستمر المأزق الحكومي السابق 18 شهرا. وخلال ذلك الوقت ظل لبنان بلا رئيس ستة أشهر وتأجل التصويت البرلماني لانتخاب رئيس 19 مرة. وحسم المأزق في نهاية الأمر حين فجر حزب الله أسوأ اقتتال داخلي منذ انتهاء الحرب الأهلية. ظلت البلاد تعتمد على العشائر والاقطاعيات التي تتمتع بنفوذ قوي في لبنان. ففي مايو أيار 2008 نقض حزب الله العهد الذي قطعه على نفسه بعد الحرب الأهلية حين وعد بألا يحول أسلحته إلى مواطنيه اللبنانيين. وفي ذلك الوقت غضب حزب الله من قرار للحكومة يحظر شبكة اتصالاته السرية المتطورة بالألياف الضوئية. ودفعت الجماعة بمئات من مقاتليها المدججين بالسلاح إلى بيروت الغربية التي تقطنها أغلبية سنية. وسريعا ما اقتلع مقاتلو حزب الله وحلفاؤهم مسلحين سنة وسيطروا على مكاتبهم السياسية وأغلقوا وسائل إعلام مملوكة لسعد الحريري ابن رئيس الوزراء الراحل. وترجع جذور مشاكل لبنان إلى اتفاق تقاسم السلطة لعام 1943 حين حصلت البلاد على استقلالها من الاستعمار الفرنسي. وكان النظام يهدف إلى الحفاظ على التوازن بين 18 طائفة وقسم السلطة بين رئيس من المسيحيين الموارنة ورئيس وزراء سني ورئيس برلمان شيعي. وحافظ على الاتفاق ميثاق وطني غير مكتوب بين زعماء لبنان. وقسمت مقاعد البرلمان في ذلك الوقت وفق نسبة ستة مقاعد إلى المسيحيين مقابل خمسة مقاعد للمسلمين وهذا التقسيم امتد إلى أدنى الدوائر الحكومية. واستند هذا التقسيم إلى إحصاء للسكان جرى عام 1932 وكان فيه الموارنة أغلبية في لبنان. ومنذ ذلك الحين ترفض الحكومة إجراء إحصاء جديد. وفي ستينيات القرن الماضي حين زاد عدد المسلمين على المسيحيين طالب المسلمون بتغيير ميزان القوى. وحين اندلعت الحرب الأهلية عام 1975 ساعد انعدام التوازن السياسي على دفع الطوائف الرئيسية إلى تشكيل ميليشيات خاصة بها. وبسبب النظام الطائفي لم تجد المؤسسات السياسية اللبنانية فرصة للتطور: فقد ظلت البلاد تعتمد على العشائر والإقطاعيات التي تتمتع بنفوذ قوي في لبنان. وأصبح الزعيم أو زعيم الطائفة الذي عادة يرث الزعامة من والده ذا سلطة خلال الحرب. ومع دخول الحرب إلى مراحلها النهائية عام 1989 اجتمع الزعماء السياسيون اللبنانيون في مدينة الطائف السعودية لإيجاد حل للنظام الطائفي. وتمخضت الوساطة السعودية والسورية عن اتفاق الطائف الذي أعاد هيكلة الميثاق الوطني بتقليص سلطة الموارنة. وضعفت الرئاسة وانتزعت معظم سلطاتها ومنحت لرئيس الوزراء وحكومته. وزاد عدد مقاعد البرلمان إلى 128 مقعدا تقسم بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين. كما دعا اتفاق الطائف أيضا إلى نزع سلاح الميليشيات باستثناء حزب الله الذي اعتبر فرعه العسكري "مقاومة وطنية" ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان الذي انتهى عام 2000. وتؤكد دوما كل الفصائل اللبنانية التزامها باتفاق الطائف وترفع من منزلة الوثيقة. ولا يعترف سوى قلة بأن هذه الوثيقة تدعو أيضا إلى إلغاء النظام الطائفي في نهاية المطاف وإن كانت لا تضع جدولا زمنيا لذلك. فالهيكل السياسي الطائفي يقود إلى دولة ضعيفة. وهو يشجع المساومات والتحالفات مع رعاة أقوياء. لكن معظم اللاعبين الحاليين استثمروا بقوة في هذا النظام ولا يرغبون حقا في تغييره. كما أن بعض الرعاة الأجانب لا يريدون التغيير لأن هذا سيقلص نفوذهم. وحتى إذا تمكنت الفصائل المختلفة من نزع فتيل المأزق الراهن وتوصلوا إلى تسوية بشأن انتخاب رئيس جديد فستظهر لا محالة أزمة سياسية أخرى ما لم يعالج زعماء لبنان وشعبه الأسباب الجذرية الكامنة وراء عدم استقرار البلاد. وفي نهاية المطاف سيكون على اللبنانيين أن يقرروا شكل الدولة التي يريدونها: هل هي دولة قائمة على التقسيمات الطائفية أم دولة يتم فيها تقسيم السلطة بشكل ديمقراطي أكثر وإلا سينزلق لبنان إلى دائرة لا تهدأ من العنف الطائفي الذي يجتاح الشرق الأوسط.