تعاني الخزينة العامة بدولة جنوب السودان من نضوب متسارع لمواردها المالية، وهذا من شأنه، جنباً إلى جنب مع الحرب الأهلية المستعرة ونقص المواد الغذائية، أن يجعل أحدث دولة في العالم عرضة لتصبح أحدث دولة فاشلة في المجتمع الدولي. خلال العامين الماضيين، أنفقت الحكومة الأميركية أكثر من مليار دولار في محاولة منها مساعدة هذه الدولة لتتجنب ويلات العنف الذي عصف بها، كما تشير الأرقام الحكومية. وقدمت دول غربية أخرى أيضاً مساعدات مالية هائلة، وأعلن وزير الخارجية الاميركي، جون كيري، في مايو الماضي عن مبلغ خمسة ملايين دولار قدمته حكومته لإنشاء محكمة في جنوب السودان لمقاضاة ومساءلة المتسببين في أعمال العنف. مجاعة وشيكة أكد الصليب الأحمر الدولي، أن انعدام الأمن الغذائي لأكثر من أربعة ملايين شخص في جنوب السودان يجعل الوضع يقترب من حالة المجاعة. وحذر من أن الكثير من السكان قد يواجهون الموت جوعاً، إذا استمرت الحرب الأهلية على هذا المنوال، حيث تسببت في نزوح 100 ألف شخص في الأسابيع الأربعة الماضية، لينضموا إلى مليوني نازح اضطروا قبل عام ونصف العام إلى ترك مكان إقامتهم بسبب الحرب الاهلية. ويؤكد المتحدث باسم الصليب الاحمر في جوبا، جاسون سترازيوسو، أن الكثير من هؤلاء النازحون يدبرون طريقة عيشهم بنفسهم في الغابة، ويعتقد أنه لا يوجد طعام في تلك المنطقة، وأن الكثير منهم سيقيمون في تلك المنطقة حفاظاً على ارواحهم. ويقول إننا نحس بالقلق بشأن وضعهم الغذائي. بيد أن حكومة جنوب السودان بددت جميع احتياطاتها من الأموال النقدية، وتحاول الآن أن تدفع ثمن تكاليف الحرب الأهلية من خلال الاستدانة، وأيضاً من خلال النذر اليسير الذي تحصل عليه من أموال النفط. ويقول نائب ممثل الامم المتحدة الخاص في جنوب السودان، توبي لانزر، والذي طردته الحكومة قبل فترة قصيرة، إنه لم يتبق في البنك المركزي أية أموال، ولم تعد الحكومة قادرة على دفع ثمن المتطلبات الأساسية. ويضيف أنه بحلول سبتمبر سينفد معين المستشفيات والعيادات الطبية من الادوية. وصرح لانزر بذلك قبل أسبوع تقريباً من طرده رسمياً من البلاد. وأصبح البنك المركزي يطبع مزيداً من الأوراق النقدية للإيفاء ببعض الالتزامات، الأمر الذي سارع في زيادة معدلات التضخم. ويقول برنامج الغذاء العالمي، إن أسعار السكر تضاعف في الشهرين الماضيين، في حين أن سعر الفول زاد إلى أكثر من الضعف. ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار الوقود إلى مستويات خرافية إلى حد جعل شركات تعبئة المياه في العاصمة جوبا تغلق أبوابها بسبب ارتفاع تكلفة عمليات التنقية مع ارتفاع أسعار الوقود اللازم لتشغيل مولدات الطاقة. وألغى البرلمان الشهر الماضي إحدى جلساته لأنه لم يكن هناك أي وقود لتشغيل المولدات. ومن شأن نضوب الأموال الحكومية، أن يزيد من مخاطر الانشقاقات في صفوف القوات الحكومية مع تصاعد القتال بين الحكومة والمتمردين، وقد يؤدي إلى ظهور مجموعات عدة من الفصائل، وهذا قد يجعل بدوره من الصعب التفاوض مع هذا الكم الكبير من الميليشيات للوصول إلى اتفاق سلام. ويقول الخبير في شؤون جنوب السودان بجامعة تافتس، أليكس دي وال، إن القوات المنشقة ستعمل لحسابها الخاص، وستضع نفسها تحت خدمة من يدفع أكثر من الفصائل المتمردة، وإذا لم تجد من يريد الاستفادة من خدمتها فإنها ستعمل لحسابها. ويتألف جيش جنوب السودان من عدد من الميليشيات، وانشق الشهر الماضي قائد ميليشيا في الشمال، وهو اللواء جونسون أولوني، من القوات الحكومية. ويقول المتحدث باسم الجيش، العقيد فيليب أغوير، إن انشقاق الجنرال أولوني أمر شاذ، ولا تزال غالبية القوات الحكومية متماسكة. ويدعي أيضاً أن الازمة المالية لم تؤثر في رواتب العسكريين. ويقول دبلوماسي غربي على اطلاع بمجريات الامور هناك، إن الحكومة فيما يبدو تعطي أولوية لرواتب الجيش على حساب بنود هامة أخرى مثل لوازم المستشفيات. ولكن تململ العسكريين قد يكون مجرد مسألة وقت، فقد توقفت محادثات السلام مرات عدة، ويبدو أن الضغوط الدبلوماسية لم تستطع استدراج السلام وتقريب الشقة بين المتحاربين، ولا يزال المراقبين الإقليميين يوثقون انتهاكات كبيرة لوقف إطلاق النار المفترض بين الجانبين، وأن أولوني متهم باستخدام الأطفال أولاً في جيش الحكومة والآن في قوات المتمردين. عندما نالت جنوب السودان استقلالها عن السودان عام 2011، اعتقد الكثير من المجتمع الدولي أنها ستلعب دوراً هاماً في مساعدة المنطقة على الخلاص من اضطهاد قبضة النظم الاستبدادية. وعلاوة على ذلك، كانوا يعتقدون أن البلاد الغنية بالنفط لن تكن في حاجة إلى الكثير من الدعم المالي الخارجي. وكان نصيب الفرد من اجمالي الناتج المحلي لجنوب السودان عند الاستقلال 1900 دولار أميركي، وفقا لأرقام الحكومة، أكثر من مرتين من نصيب الفرد في معظم بقية دول شرق إفريقيا، باستثناء السودان. إلا أن الخلافات مع السودان حول رسوم خط الانابيب الناقل للنفط الخام عبر السودان إلى موانئ التصدير في بورتسودان على البحر الأحمر تسبب في توقف تصدير النفط، ما اضطر جنوب السودان إلى الاستدانة من شركات النفط. ولم يمض وقت طويل بعد استئناف تدفق النفط حتى اندلع القتال في العاصمة في ديسمبر عام 2013، مما أثار الموجات العدائية الحالية. ويقول محللون، إنه على الرغم من انخفاض أسعار النفط ظلت رسوم خط الانابيب عبر السودان ثابتة، وبالتالي تحصل البلاد فقط على نحو 10 دولارات للبرميل، وهذا أقل بكثير ما كانت تتوقع الحكومة. ويقول المتحدث باسم الرئاسة، اتيني ويك اتيني، إن جنوب السودان استطاع الشهر الماضي تأمين قرض من قطر بقيمة 500 مليون دولار، وإن الحكومة أودعت 50 مليون دولار في النظام المصرفي للمساعدة في تخفيف حدة أسعار السوق. وعندما سأله الصحافيون عن مصدر الأموال ادعى أنه سمع من مسؤولين حكوميين آخرين أنها من الاحتياطيات الحكومية، لكنه أضاف بأنها يمكن أن تأتي من مصادر أخرى، مؤكداً أن حكومة جنوب السودان لا تضع كل البيض في سلة واحدة. وأضاف أنه إذا كان هناك أي شخص ينتظر انهياراً اقتصادياً وشيكاً فإنه سينتظر لفترة طويلة. وتظل حكومة جنوب السودان متحفظة عن ذكر أي تفاصيل من احتياطاتها النقدية أو تفاصيل دائنيها أوشروط قروضها. وتقول المستشارة السياسية لدى منتدى المنظمات غير الحكومية في جنوب السودان، هوسانا فوكس، إن البرلمان يدرس مشروع قانون من شأنه أن يزيد رسوم تصاريح العمل للأجانب - ومن بينهم من يعملون في وكالات الإغاثة - من 200 دولار إلى 10 آلاف دولار للفرد. وعند سؤال ويتيني عن تلك الرسوم، رد قائلاً إن الشركات العالمية تجني الملايين في جنوب السودان، وإن هذا البلد له الحق في الحصول على جزء من تلك الأموال، لأن الحكومة لا تفرض ضرائب على تلك المنظمات الطوعية. وترى فوكس الأمر بشكل مختلف، وتقول إنه اتجاه مثير للقلق لعمليات الاغاثة في جنوب السودان حيث تنظر السلطات بازدياد إلى هذه العمليات على أنها مصدر للدخل في الوقت الذي تكافح وكالات الاغاثة لمواكبة الاحتياجات الماسة التي تمخضت عن الحرب الاهلية.