الكل يحذّر من «داعش»، والكل يتبرأ منه، وما من طرف إلا ويضع المسؤولية على الآخر في ولادة هذا التنظيم ومدّه بأسباب القوة والدعم، إما كصنيعة غربية أميركية وإما كسلاح خلقته إيران وحلفاؤها، وإما كأداة طيّعة بيد تركيا وأنظمة عربية! وإذ يدّعي هذا الكل محاربة «داعش»، لا تبدو هذه الحرب جدية بل هزيلة النتائج، ولا يزال تنظيم «دولة الخلافة» يتقدّم، على رغم وفرة أعدائه وحيازتهم أرقى أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً، ويسيطر على مدن ومحافظات بأكملها، يدمّر مخزون الحضارات، يهجّر السكان ويقتل الأبرياء، ما يثير السؤال عن غرض هذه الحرب، أهي لهزيمة «داعش» فعلاً أم لتحجيمه فقط، وهل ثمة مصلحة مشتركة لكل أعدائه في استمرار هذا «الشر المطلق»، والاستثمار فيه لجني ما يمكن من المكاسب والفوائد؟! الاستثمار الأميركي والغربي في «داعش» باتت عناوينه واضحة، فلا يخطئ من يربط العودة المظفّرة للعصا العسكرية الأميركية إلى المشرق العربي بتقدّم خطر هذا التنظيم وما يرتكبه من فظاعات، أو من يرى دور المعارك ضد «داعش» في استجرار مزيد من السلاح وتحريك إنتاج الشركات الحربية الأميركية التي كانت تعاني من ركود لافت، ولا يجانب الصواب من يعتقد بتوظيف «داعش» غربياً لمحاصرة النفوذ الإيراني واستنزافه في المشرق العربي وإجباره على تقديم مزيد من التنازلات في الملف النووي، مثلما يصيب من يجد أن الاستثمار الأهم هو تحويل أرض دولة الخلافة إلى بؤرة جاذبة للقوى الجهادية كافة، ولعل التسهيل المريب لسيطرة «داعش» على مساحات واسعة من سورية والعراق، غرضه توفير حافز متميز يشجع جهاديي أوروبا وأميركا على الهجرة الى «مقتلهم»، ولا يغيّر هذه الحقيقة ما يثيره الغرب من قلق حول هجرة مواطنيه الإسلامويين وعودتهم مزوّدين بخبرات عسكرية قتالية، فالصورة على العكس تماماً، والحقيقة تقول إن أهم البلدان الغربية تشجّع ضمناً هذا الخيار وترعاه أمنياً كي تكشف مزيداً من الخلايا الجهادية النائمة وتطهّر البلاد من خطرها، مستندة إلى إجراءات مشدّدة تبدأ بالاعتقال لمدد طويلة ولن تنتهي بما تثيره بعض البرلمانات الغربية من مشاريع تقضي بسحب الجنسية من كل من التحق بدولة الخلافة. أصابع الاتهام توجّهت مع ظهور «داعش»، إلى إيران والنظام السوري ربطاً بمصلحتهما في استثمار التطرف الإسلاموي لتشويه الثورات العربية وإثارة الفوبيا الغربية من الجهادية المتشددة، وتالياً تشجيع القبول بهما دولياً كأهون الشرور، وبهذا الصدد أثيرت الشكوك حول إطلاق سراح مئات المتطرفين من سجون العراق وسورية، وتمكينهم من التغلغل في صفوف الحراك الشعبي ودفعه صوب السلاح والعنف، وحول التواطؤ مع «داعش» لاستنزاف قوى المعارضة ومواجهة فصائلها المسلّحة المعتدلة، وحول تسهيل سيطرته بداية على بعض المناطق العراقية ومدينة الرقة السورية. وفي المقابل، مع التطورات العسكرية الأخيرة، أثيرت الشكوك حول انقلاب السحر على الساحر وتحوّل «داعش» صوب أجندته الخاصة أسوة بتحوّل بن لادن من صنيعة أميركا إلى أشدّ أعدائها، والقصد احتمال خروج «داعش» عن سيطرة الراعيين الإيراني والسوري بعد اجتياحه الموصل وطرقه أبواب بغداد واستيلائه على أهم مناطق ريف سورية الشرقي ومدينة تدمر، منتزعاً مواقع مهمة من النظامين السوري والعراقي، كمطارات وثكنات عسكرية ومنشآت اقتصادية أضعفت بلا شك قدراتهما العسكرية الميدانية. تركيا تستثمر في «داعش» وتغضّ النظر عن سيطرته على القرى الممتدة على طول الشريط الحدودي، لأنها صاحبة مصلحة في إجهاض الحضور العسكري الكردي في سورية، ومحاصرة تأثيره السلبي في أمنها ومسار التسوية مع حزب العمال الكردستاني، وفي الطريق توظيف أخطار «داعش» والحملة الدولية ضده لتشديد مطالبتها بإقامة منطقة آمنة تمكّنها من التحكّم بالنفط في شمال البلاد وشرقها، وتمنحها حصة مجزية من المستقبل السوري. ثم أليس من مصلحة بعض الأنظمة العربية الاستثمار في «داعش» لقطع الطريق على مشروع الهلال الشيعي وإشغال نفوذ إيران في المشرق ومحاصرته، وتالياً الضغط على طهران لتمرير تنازلات سياسية في سورية والعراق ولبنان؟! وأيضاً ألم تستثمر بعض الأصوات الكردية هجوم «داعش» على كردستان العراق وعين العرب كي تتعالى مطالبتها بالاستقلال القومي؟! أولا يعني الكثير لما يسمى الإسلام السياسي المعتدل الاستثمار في «داعش» والطعن بارتكاباته الوحشية لتسويق نفسه كخيار مقبول في أوساط الرأي العام العربي والغربي؟! والحال، تتضافر أسباب ثلاثة في تفسير تحوّل تنظيم «داعش» إلى مركز للاستثمار من جانب قوى وأطراف تعادي بعضها بعضاً. أولاً، انحطاط الصراع السياسي نحو أتون عنف مفرط وتنابذ طائفي بغيض، زاد الطين بلة استمرار ظواهر التمييز والقهر ضد العرب المسلمين السنة في المشرق العربي، واستبعادهم عن المشاركة في إدارة شؤونهم وبناء مستقبل أوطانهم، ما أفضى إلى اتساع الفئات المهمّشة والمحتقنة مذهبياً، وشكّل تربة خصبة مدّت «داعش» بأسباب النمو والتجدد، وعززت التوظيفات الخارجية في الصراعات الدائرة. ثانياً، حالة الإبهام التي تلفّ هذا التنظيم الملثم وحداثة تكوينه وغموض آليات تشكيل هيئاته وتنوع مصادر كوادره، ذلك كله يسمح باختراق صفوفه وزرع كفاءات استخباراتية في قياداته يمكّنها من تجيير بعض أدواره ومعاركه لمصلحة الأطراف الموالية لها. ثالثاً، ساهم غياب البديل الديموقراطي وتشتّت المعارضة السياسية والمدنية وسيادة لغة العنف البربري، في انزلاق المظلومين نحو الرهان على أي خيار قد يرد المظالم ويرفع الفتك والتنكيل عنهم، وكأن شعوبنا أدمنت هدر تضحياتها ولم يتعبها الانتقال من دورة معاناة وقهر الى دورة أخرى، وكأن تجاربها المؤلمة ودروس التاريخ لم تعلّمها بأن طريق الخلاص الحقيقي لا يصنعه رفع الاضطهاد عن الذات باضطهاد الآخرين، أو الانتقال من استبداد إلى آخر، بل بأن يتصدر المظلومون الصفوف الأولى لإزالة كل أسباب التمييز والاضطهاد ونصرة مجتمع المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان.