×
محافظة المنطقة الشرقية

مصر: تقرير "هيومان رايتس ووتش" مسيس ويفتقر لأبسط قواعد الدقة

صورة الخبر

يومياً يجتمعون من دون تنسيق مسبق. يجولون في النهار ويعودون أغلب الأحيان مع غروب الشمس أو عندما يسدل الليل ظلامه...يهدأون قليلا، ثم ما يلبث كل واحد منهم أن يتجه إلى غرفة شبيهة بغرفة العمليات محكمة الإغلاق، فيعتكف كل واحد منهم مع نفسه لفعل أمر ما... أحيانا يكونون كلهم متواجدين في البيت...لكن لا صوت يسمع أو ضجيج يرصد، فأبواب الغرف مغلقة والصمت مخيم على المكان...فالأمر الذي يقومون به لا يحتاج أحياناً إلى الكلام... انعزالهم في الغرف، جعل قاعة الجلوس موحشة...يدخل صاحب البيت يسأل: أين أهل الدار...؟ الجواب: سكنوا غرفهم، أما من تبقى منهم فإنهم في شتات الأرض كل منشغل في أمر ما، لكن ما من أحد يعلم ما ينشغل به الآخر...صحيح أنهم يعيشون في بيت واحد، بل تحت سقف واحد لكن كل واحد منهم يجهل تقريبا ما يقوم به الآخر وكأن المكان الذي يؤويهم لا يجمع سوى غرباء. قد يلتقون في الصباح قليلا وقد لا يلتقون إلا في المناسبات، تجمعهم الأزمات اكثر مما تجمعهم الأوقات السعيدة. إنها الحالة التي وصلت إليها الأسر العربية وعلى رأسها أسر خليجية...حيث إن تسلل نسق الحياة العصرية دفع إلى زيادة التعويل على الآلة ما قاد الكثير من البشر إلى الكسل وعدم تحمل المشقة في بذل جهد ما لصالحه أو لصالح الأسرة. فعلى سبيل المثال بدل أن يقوم الشخص الآن بزيارة الأهل مباشرة يكتفي البعض بمكالمة هاتفية أو إرسال رسالة نصية. وبدلاً من أن يبقى البعض مع الأهل لمشاهدة التلفزيون على سبيل المثال يحبذ البعض مشاهدة ما يروق له على أجهزة هواتفهم الذكية بمفردهم، وبدل الدراسة قريبا من الأهل أصبح الكثيرون يختارون وجهات تعليم قد تكون بعيدة عن مقر الأهل. وبدل السكن قريبا من الأهل أصبح البعض مضطراً إلى الهجرة والسفر والسكن في أماكن بعيدة عن الأهل، وبدل العمل في بلده أصبح البعض الآخر بخياره أو مدفوعا بالعولمة أو بمبرر تحقيق طموحه يختار الرحيل من بلاده، مرحباً بالابتعاد عن أهله. سهولة التنقل والانفتاح على دول العالم دفع كثيراً إلى زيادة خيار الرحيل عن الأسرة بضرورة تحسين ظروف المعيشة والتعليم ما دفع إلى قلة تواجد وحضور كامل أفراد الأسرة في بيت واحد...هذا البعد يخلق عبر الزمن فتوراً في العلاقات الأسرية عند البعض ما يؤرق خصوصاً الوالدين عند الكبر. حيث رصدت تقارير اجتماعية كثيرة في العالم زيادة وحدة كبار السن وإقبال بعضهم على دور كبار السن نظراً لتفرق أعضاء الأسرة. البحث عن سهولة الحياة ضيع على الكثيرين الإحساس بدفء العائلة كما أن عاملاً آخر مهماً جداً حسب ما أثبتته دراسات اجتماعية يتمثل في أن نشأة الأطفال في الدول العربية لم تعد مثل السابق حيث إن كثيرين من الآباء على عكس الماضي يوكلون تربية أبنائهم وتدريسهم إلى جهات خاصة مثل المربيات المتخصصات أو إلى مدارس خاصة. فيربون الطفل في سنواته الأولى على أيادي وفكر آخرين ويعتاد الابتعاد عن أبويه المنشغلين في العمل، فلم يعد يلتقي بهما إلا في أوقات خاصة ما ينعكس سلباً على سلوك بعض الأطفال عندما يبلغون سن الشباب، وقد يكون أسلوب تعامل البعض مع أهله جافياً، وقد لا تكون هناك صلة تواصل فكرية سهلة بين الأبناء والآباء، وفي النهاية يستسهل البعض من الأبناء الابتعاد عن الأهل بمبررات كثيرة كالدراسة والعمل في الخارج، أو الزواج والسكن بعيدا عن الأسرة للتعويل عن النفس، أو للاستقرار في وضع اجتماعي جديد. لكن هل هذا يعني ألا يدرس الأطفال في الخارج وأن يقلصوا من تنقلاتهم أو انفتاحهم على الآخر طبعا لا. لكن ما يمكن فعله من أجل ردع الصدع الذي تشهده أسر عربية، والذي قاد أيضا إلى زيادة التفكك الأسري هو زيادة اهتمام الآباء أكثر بأبنائهم، حيث كانوا يقومون هم بانفسهم في مراحل مبكرة من نشأة أطفالهم بالإشراف على تربيتهم وتلقينهم مبادئ الحياة ومصاحبتهم بدل عقابهم حتى ينشأ الطفل ابناً وصديقاً لأسرته ما يجعله باراً بأسرته أكثر من غيره ويبذل الجهد حتى يعيش في ظل أسرة مترابطة، ولا يجدر على الآباء ترك أبنائهم فريسة سهلة للتكنولوجيات الحديثة التي تؤثر على سلوك الطفل عندما يعتمد عليها في التعرف على هذا العالم. حيث إن الانفتاح الحاد والحرية المطلقة التي ميزت تربية أطفال الغرب والتي تحاول العولمة أن ترسخها في أجيال العرب أصبحت لها انعكاسات سلبية جداً في أجيال دول غربية اليوم، ورصد تزايد انهيار مفهوم الترابط الأسري في مقابل نمو سلوك الفردية وعدم الاكتراث إلا إلى نزواته. وأدت ظاهرة الفردية إلى تزايد ظاهرة الاكتئاب وصولاً إلى الانتحار بين الشباب بالإضافة إلى انتحار كبار السن أو ما يسمونه بالموت الرحيم لمعاناتهم من الوحدة عند الكبر بسبب تفرق أفراد الأسرة. لكن قد يكون التفسير قاسياً جداً لتوصيف ظاهرة التفكك الأسري في الدول العربية وتحميل أسبابه للآباء أو الأبناء، فالدولة قد تكون طرفاً في المسؤولية عن الأزمة الاجتماعية التي تزيد حدتها يوماً بعد يوم. حيث إن الفرد لو وجد مدرسة قريبة وعملاً قريباً من الأسرة لاختار أكثرهم العمل والسكن قريباً من الأهل ولو كان مكان العمل والدراسة متوافراً في وطن البعض لما اضطروا إلى الهجرة والابتعاد عن الأسرة. إلى ذلك فإن طرقاً جديدة عوضت الأسرة في تشكيل معرفة الطفل فبدل أن يلجأ الابن أحياناً لسؤال أبيه أو أمه عن أمر ما يساعد على خلق حوار أسري، أصبح الطفل والمراهق اليوم يعتمد على الإنترنت أو الأصدقاء لمعرفة الكثير من الأمور، وقد تكون هذه المعرفة مشوهة او ليست مؤطرة ما قد تؤثر على سلوك الطفل والشاب، فيخرج البعض منهم عن السيطرة الأبوية لينشد التحرر الكامل والعصيان في بعض الأحيان وهذا ما يدفع لظاهرة صراع الآباء والأبناء مستقبلاً وذلك لاتساع الهوة المعرفية بين الجيلين وما عززها هو تهاون الآباء في الإتاحة للأبناء الوسائل الجديدة للمعرفة والتسلية التي تؤثر بشكل بالغ في تصرف الابن عند بلوغه. يجب التذكير بأن أغلب المجتمعات العربية قبل خمسين عاماً كانت مجتمعات زراعية بامتياز حيث إن أغلب الاقتصادات العربية كانت تقوم على الزراعة أو الحرف والتجارة العائلية، وبذلك فإن الترابط الأسري كان قوياً، كما أن تلاحم الآباء والأبناء كان متيناً، وذلك لكون طبيعة الاقتصاد تسهل على تجمع أفراد الأسرة واشتراكهم في مصدر العيش. في الخمسينات من القرن الماضي نشطت بشكل كبير التجارة والزراعة الأسرية وكان الأبناء يعينون الآباء وكان معدل الهجرة والابتعاد عن الأسرة محدوداً، ومع دخول عصر الاقتصادات الصناعية والخدماتية وصولاً إلى اقتصاد المعلومات والتكنولوجيا زاد دافع الابتعاد عن الأسرة وزادت خيارات الفرد في العيش ضمن عوالم مختلفة قد تسحبه من أسرته من دون أن يشعر، كما أن وسائل التربية والتدريس والأنشطة الاجتماعية الجديدة لم تساعد على الترابط الأسري بقدر ما دفعت إلى زيادة الفردية. على صعيد آخر،عادة ما التصقت صفة عائل الاسرة بالأب او الأم في تلميح لكون دور الأب أو الأم قد يقتصر على الإنفاق على تربية أبنائهم دون الاهتمام بالشق الثقافي وتنمية سلوك الأبناء. حيث كان يلام على الآباء في الماضي أن أميتهم وجهلهم يعوق حوارهم وقربهم مع أبنائهم، لكن اليوم تقلصت أمية الآباء وزادت ثقافتهم. فلماذ لم يتحسن الحوار بين الآباء والأبناء بل على العكس في المقابل زادت العزلة والبعد النفسي والفكري بين الجيلين. فما المشكلة؟ هل مازال نمط التربية في الدول العربية يعتمد على طاعة الأبناء العمياء للآباء من دون حوار أو إقناع أو أن الأبناء متمردون بسبب مدركات الثقافة الجديدة التي تتوجها العولمة، والتي تساعد على بناء الفرد بنفسه مع توافر تكنولوجيات المعرفة بين يديه فقط بكبسة زر؟، أم ان بُعد الآباء عن الأبناء بسبب زيادة ضغط وقت عمل الوالدين وانشغالهما في البحث عن فرص أفضل من خلال الانهماك في أكثر من عمل لتحسين ظروف عيشهم وعيش أبنائهم وقد يكون هذا الانشغال على حساب القرب من الأبناء. يعتقد البعض أن مشكلة نقص الحوار بين الآباء والأبناء على الرغم من تحسن مستويات الثقافة لدى الطرفين تعود إلى قنوات التواصل الجديدة التي طرحتها العولمة وهي التواصل الفردي والافتراضي. حيث إنه مع انتشار أجهزة الهواتف الذكية والحواسيب ومواقع التواصل الاجتماعي اندفع ملايين البشر بشغف إلى اختيار كل حسب هواه وقناعته موقعه في هذا العالم الحقيقي والافتراضي. توجه يدفع البعض إلى استهلاك ساعات طوال كل يوم على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن نفسه وعن رغباته أو لإشباع حاجاته النفسية والثقافية والعلمية والعاطفية، وقد يبذل البعض جهوداً تتطلب العناء لإثبات النفس والقدرات الشخصية التي لم يستطع البعض إثباتها في العالم الحقيقي. زيادة التواصل والتعبير افتراضيا قلص من فرص الحوار المباشر بين الآباء والأبناء كما دفعت المنظومة الاقتصادية الحدثية إلى زيادة التعويل على اقتصاد الفرد أكثر من المجموعة وذلك من خلال منظومة بناء ثقافة وظيفية لكسب مهارات عمل وليس لكسب مهارات عيش وتواصل. إلى ذلك فإن التكنولوجيا الافتراضية تسرق كل يوم من ملايين البشر عواطف طبيعية، وتحولها مستقبلا إلى قسوة قد يكتبسها الإنسان المستهلك لهذه الأدوات دون إدراك حقيقي منه. كما أسهمت الثورة الرقمية إلى ميل الناس للتعامل بشكل تحليلي منفعي أكثر من تعاملهم بشكل عاطفي إنساني. انها لغة الأرقام وليست لغة العواطف ما تروج عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام العالمي الجديد الذي يسيطر على 80 في المئة منه ليبراليون يهود. الثورة المعلوماتية بما فيها من فضائل دفعت الإنسان إلى أمية معرفية لأنها عرضت عليه كثيرا من الخيارات التي جعلته يتيه بينها ولا يعلم أياً منها يختار أو أياً منها صائبا. حتى أصبح البعض يعزف كلياً عن القراءة والتعلم بشكل معمق ولا يهتم بالجانب التثقيفي في المعلومات أو الجانب الإخباري بقدر ما يبجث عن جانب التسلية فقط. هذا التوجه لم يخدم بناء المعرفة المركز بشكل صحيح لأنه ليس هناك من موجه يرشد ملايين الناس الذين يلتهمون يومياً معلومات عديدة ومتضاربة تتيحها نوافذ الانترنت وشبكات الاعلام بمختلف توجهاتها. عندما يبحر في آلاف المواقع التي توفر مليارات المعلومات يصبح موجه المزاج، ولا يصبح هناك مؤطر يؤهله لتعلم ملكة حسن التدبير وأساسيات الاختيار الناجح والإيجابي لما يفيده أكثر من الذي يضره. لذلك ظل الكثير تائهاً ومنشغلاً في متاهة دنيا المعلومات الجديدة، الأمر الذي دفع بالبعض إلى الاكتفاء باستهلاك المعلومات دون مناقشتها مع الآخرين وهو ما يعزز مؤشر العزلة المعرفية للواقع. التفكك الأسري في الدول العربية الذي تحدثت عنه تقارير مختلفة أصبحت حقيقة مرة، وتنمو بشكل متسارع وتساعدها في ذلك التكنولوجيات الحدثية خصوصا تكنولوجيا التواصل الاجتماعي التي أصبحت في بعض الأحيان لعنة تبعد أفراد الأسرة عن بعضهم بعضاً. فعندما تجد كل فرد من أفراد الأسرة في ركن مختلٍ بنفسه مع جهازه، أياً كان هذا الجهاز وهو مبحر في عالم الانترنت فيجب أن تدرك أن هذا الفرد بصدد الغرق في بحر من الأوهام ولا يمكنه مقاومة موج العولمة العالي الذي سحبه بشدة إلى العمق، وللأسف استسلم الكثير لهذه العزلة الافتراضية. بل إن الابن أحياناً لا يعلم خصوصيات والده، والأب أيضاً لا يعلم حتى ماذا يدرس ابنه، وأي تخصص يتبعه وكيف يفكر. فلا مجال للحديث لحظة وجود الهاتف الذكي بين أيادي أفراد الأسرة فكل يشبع رغباته مثلما يريد، وعند التعود يتطور الأمر إلى إدمان التواصل مع الأجهزة أكثر من التواصل مع البشر وأقرب الناس اليه. حيث إن انتشار وسائل التواصل الفردي التي من خلالها ينفذ الفرد إلى بحر الإنترنت ومواقع التواصل يقتل شيئاً فشيئاً التواصل الحقيقي المباشر بين الفرد مع أقرب الناس إليه، وإدمانه أجهزة الانترنت وخدمات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التسلية تجعله يتوهم أنه منشغل دائماً، وتبعث في نفسه قلقا وعدم سكينة قد تؤثر على مزاجه إلى درجة العدوانية. والحل قد يكون في زيادة الإحساس بأهمية التواصل والقرب من أفراد الأسرة الواحدة، والتفكير على سبيل المثال في إقامة عيد أو يوم وطني لعدم استعمال أجهزة التواصل الرقمي أو الاجتماعي. وهنا يطرح التساؤل التالي: إلى أي مدى افقدتنا تكنولوجيا اليوم الحاجة إلى تعلم فنون الحوار مع الأهل وأدب الحوار مع الآخرين؟، وهل تفقدنا التكنولوجيا إنسانية الفرد فأصبح جافاً بلا أحاسيس؟