التعريف الكلاسيكي الذي صاغه كلوزوفيتس للاستراتيجية العسكرية العليا يحصرها في حشد وتوجيه وتسخير طاقات الأمة المادية والمعنوية وظروفها الداخلية والخارجية، من أجل خدمة الموقف العسكري باعتباره إحدى الوسائل لتحقيق أهداف الأمة. وعيب هذا التعريف أنه ناتج من ملاحظة حروب نابليون وبسمارك وحرب السبعين في أوروبا الإمبراطورية التوسعية. ويلحظ مولتيكه في تعريف أحدث أن الاستراتيجية العليا تتفاعل داخلها عوامل حضارية واجتماعية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية وليست صنيعة عنصر واحد. والأساس في هذه الاستراتيجية ذو وجهين للداخل يعتمد الصدق والمبادئ العليا التي تدفع الشعب للوقوف صفاً واحداً خلف القيادة والاستعداد لبذل الدم والمال والوقت من أجل تحقيق أهداف الأمة، وللخارج نحو العدو بعقيدة قتالية لا تتزعزع. تخوض الحكومة العراقية حرباً ضد تنظيم داعش، لكن هذه الحرب تفتقر إلى الاستراتيجية العملية الواضحة، ما يبرر الإخفاقات المتصلة في مواجهة المئات أو حتى الآلاف من مقاتلي التنظيم الذي تزعم القيادة العراقية تارة أن ٨٠٪ من عناصره عراقيون، وتارة أخرى تجزم بأنهم في أغلبيتهم أجانب، وهنا يكمن الخطأ الأول في مواجهة العدو، وهو تحديده ومعرفة عقيدته القتالية وأسلحته وتكتيكاته الحربية. هذا الجهل بالعدو يدمر أي استراتيجية عسكرية - إن وجدت - ويصبح الجميع في منطقة القتال أعداء حتى لو كانوا مدنيين يعانون الظلم مرتين، مرة من حكومتهم التي لا تفرق بينهم والعدو، وثانية من العدو الذي يقهرهم بقوة السلاح ويستخدمهم دروعاً بشرية. وفي المقابل تعتمد الاستراتيجية العسكرية الحديثة على جيش صغير العدد حسن التدريب عالي الكفاءة يتميز بخفة الحركة لخوض حرب المحترفين من أجل تحقيق الأهداف العسكرية بأقل قدر من الدماء اعتماداً على النشاط الاستراتيجي أكثر من المعارك التكتيكية. وقد كشفت ملابسات الواقع على الأرض أن الجيش العراقي الجديد أنشأته فورة طائفية يمثلها أكثر مما يمثل الوطن على عهد رئيس الوزراء الطائفي السابق نوري المالكي، وكان العدد على حساب النوع، فضلاً عن الولوغ في دم مكون عراقي أصيل عانى من التهميش والاقصاء والفرز المذهبي، ما جعل أرضه حاضنة مثالية للتمرد الذي اختلطت به عناصر داعش والمقاتلون العقائديون. وفوق كل ذلك تفتقد الحركة العسكرية للقوات العراقية السرعة في الاستجابة للتحديات الميدانية، إلى جانب الافتقار إلى الإرادة القتالية، الأمر الذي فتح المجال لتجييش الحشد الشعبي وهو في الأساس ميليشيات طائفية لها أجندتها المنفصلة عن استراتيجية القوات المسلحة الحكومية، وضد الاستراتيجية العليا للدولة، التي تخونها الحكومة ضاربة عرض الحائط بالصدق والمبادئ. قد تشارك القيادة العراقية في عشرات المؤتمرات - مثل مؤتمر باريس - للحصول على الدعم العسكري المباشر والدبلوماسي، لكن السياسة الخارجية ليست إلا جزءا من الاستراتيجية العليا، ولن يحقق عنصر واحد من عناصر هذه الاستراتيجية النصر في الحرب. الحرب في العراق على الإرهاب يحقق النصر فيها استراتيجية عامة واضحة صادقة تترجم مصالح العراق العليا، لا مصالح طائفة أو مذهب أو أتوقراطية أو أجندة دولة أخرى حسب الولاء والولاية. osnim@hotmail