×
محافظة الرياض

جمعية «سايكو» توافق على طرح أسهم حقوق أولوية بقيمة 150 مليون ريال

صورة الخبر

محمد الأسعد مررتُ بمصطلح ثقافة التعايش للمرة الأولى حين قرأت خبراً عن أعمال منتدى عقد في فنلندا في إبريل/نيسان من العام 2012، شارك فيه أكاديميون من مختلف الجنسيات توافدوا ليبحثوا فيما أطلقوا عليه ثقافة التعايش السلمي. وقبل ذلك شدّدت منظمة اليونيسكو في إعلانها خلال مؤتمرها العام (نوفمبر/تشرين الثاني 2001) على ضرورة الحفاظ على التنوع الثقافي بوصفه منبعاً للتعارف والابتكار والإبداع، ضرورياً للنوع الإنساني مثلما هو ضروري التنوع البيولوجي بالنسبة للطبيعة. ولم أمر بهذا المصطلح في أي مناخ أو مؤتمر عربي لا في الماضي ولا في الحاضر، فالكل مشغول عربياً بمصطلحات دالة على الصراع والأزمات والتشققات. المشترك، في العوالم السليمة عقلاً وجغرافية ورؤية، هو مصطلح الثقافة، المقدم من جانب كوسيط للتعايش، ومن جانب آخر كوسيط للتنوع والغنى. وهناك بالطبع جانب التشديد على الوحدة الثقافية لدى بعض الاتجاهات الحريصة على التماسك الاجتماعي. ولدى هذه الاتجاهات الأخيرة الثقافةُ تعني أمرين: أولاً ذاكرة مشتركة تقوم على لغة واحدة، وتاريخ واحد، وتراث واحد، وثانياً قاعدة للعيش مشتركة، وتعني تواصلاً لغوياً وفق قواعد تؤمن التفاهم، وسلوكاً وفق قواعد تحكم مجتمعنا. هذا الوضع الأخير وضع مثالي لم يعد قائماً في أي مكان في العالم. فرغم أن الثقافة الواحدة توفر نظرياً منظومة مبادئ تنظم حياة أي مجتمع من المجتمعات، وخلفية معرفية يتشارك فيها أفراد المجتمع، وكل هذا يجعل سلوك الناس قابلاً للتنبؤ، ومفهوم من قبل بعضهم بعضاً، فإن عالم اليوم، الذي يكاد يتحول إلى قرية واحدة كما يقال، أصبحت مجتمعاته تتميز بالتعدد الثقافي، وتختلط فيها الأعراق، والقوميات، سواء بسبب المهاجرين أو المقيمين. ومثل هذه الأوضاع تولّد اختلافات وتناشزات، بل ويمكن أن نجد هذه الاختلافات والتناشزات حتى في إطار مجتمعات ذات ثقافة واحدة ولغة واحدة ومنظومة قواعد واحدة. وبعض علماء الاجتماع العرب يشير منذ زمن مثلاً إلى التناشز بين السكان المستقرين والسكان المترحلين، أو بين سكان الأرياف والحواضر. وهو تناشز يرجع إلى اختلاف الثقافات، اختلاف في القيم والأعراف بل وحتى الموروثات. ومن هو ذلك الذي يستطيع تجاهل اختلاف موروثات هذه الجماعة عن موروثات جماعة أخرى تشترك معها في اللغة مثلاً؟ * * * إذاً يمكن أن تكون الثقافة، إذا تنوعت سبباً في التناشز الاجتماعي، ولكن يمكن أن يكون تنوعها سبباً في التقارب والتفاهم. وهذه الأخيرة هي ما تدعى ثقافة التعايش. في تجربة مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، متنوع عرقياً وقومياً ودينياً إلى درجة مذهلة لأنه مجتمع مهاجرين من شتى بقاع الأرض أساساً، نجد تبايناً في كيفية إيجاد وضعية تعايش بين شتى التنوعات، إلا أن هناك نهجين في هذا السبيل بشكل عام، الأول يسعى إلى تقليص الفروق بين مكونات المجتمع أو تجاهلها، والثاني يعترف بوجود الفروق والاختلافات إلا أنه يقدّر قيم ومعايير وثقافة كل جماعة ويعترف بتفردها. النهج الأول مثلته نظرة ما تدعى البوتقة، وتعني أن على الكثرة الكاثرة من الجماعات العرقية والقومية والدينية أن تذوب وتنصهر في بوتقة واحدة، ويصبح الكلّ أمريكياً. وأصبحت الأقليات في أمريكا بتأثير هذه الدعوى تستهدف الاندماج في مجتمع يهيمن عليه البيض. وتحت تأثير هذه الحركة أراد الناس، بكلمات مارتن لوثر كنج، أن يحكم عليهم، لأبناء على ألوان جلودهم، بل بناء على مضمون شخصياتهم، أي أن يعامل كل شخص المعاملة ذاتها بغض النظر عن عرقه أو أصله القومي أو دينه أو مذهبه. النهج الثاني قام على أساس ما تدعى التربية متعددة الثقافات، وتعني أن تتوفر لدى الإنسان منذ نعومة أظفاره، أو وهو على مقاعد الدرس، معرفة بتواريخ وثقافات ومنجزات مختلف الجماعات التي تكون مجتمع من المجتمعات. ويفترض هذا النهج أن مستقبل بلد مثل أمريكا هو أن يكون مجتمعه متعدداً، وليس أحادي اللون والثقافة والدين.. إلخ. ومن الملاحظ أن هذا النهج يقوم على الاعتراف بأهمية وقيمة ثقافة الآخر المختلف، وأن هذا الاعتراف مقدمة لإيجاد قابلية للتواصل والتفاهم، ومن ثم التعاون المشترك. وبالطبع يقف هذا النهج ضد النزعات العنصرية والقومية المتعصبة التي تقلل من شأن ثقافة الآخر المختلف، بل تعمل على محوها والتضييق على أصحابها ومنع ثقافتهم من التطور والنمو والازدهار، ويأخذ بجوهر إحدى أكثر القيم الإسلامية إنسانية، تلك التي تجعل الناس إخوة، فإن لم يكونوا إخوة في الدين، فهم إخوة في حقيقتهم الإنسانية الواحدة. * * * إذا التفتنا إلى الوطن العربي، ذلك الذي يحتوي على منظومات ثقافية متقاربة في ذاكرتها وقيمها وخلفياتها المعرفية، نجده يتعرض حالياً إلى نوع غريب من الصراعات والتناشزات المتعددة الرؤوس، بعضها طائفي وبعضها مذهبي، بل وبعضها عرقي كما تشهد بعض المناطق. وهذه مأساة تتمثل على صعيدين: على الصعيد القومي، يبدو أن لاشيء يجعل تعايش العرب الراهنين ممكناً، لا لغتهم الواحدة، ولا عقائدهم المتقاربة، ولا ظلال أنماطهم المعمارية الواحدة، ولا حتى مصالحهم المشتركة. والأغرب أن ما تحتاج مكونات شعوب أخرى إلى التغلب عليه، وهو أصعب بدرجات، مثل الاختلافات العرقية واللغوية والقومية، لا يحتاج العرب إلى مواجهته، فهم يعلمون أبناءهم لغة واحدة، ويبسطون أمامهم تاريخاً واحداً، والتقارب بين عقائدهم الإيمانية أكثر من التباعد. أضف إلى ذلك أن المصالح التي تجمعهم، سواء كانت اقتصادية أو جغرافية /سياسية أو عسكرية، أكثر من تلك التي تفرقهم. وكانوا حتى الأمس القريب يخوضون متلاحمين معارك التحرر والاستقلال. على الصعيد المحلي، وهو ما يقلق بشكل خاص، نجد أن التناشز بدأ يتمدد داخل البلد العربي الواحد، الأمر الذي لم يكن متخيلاً على هذا النطاق الواسع. صحيح أن بعض البلدان العربية مرّ بتجربة الحرب الأهلية، وما تخللها من تشقق في النسيج الاجتماعي، إلا أن هذه التجارب لم يتخيل أحد أن هناك من لم يتعلم دروسها المرة. وبدل أن تخرج تلك البلدان، ومثالها لبنان، وتبدأ بتعليم أبنائها ثقافة التعايش بسلام، نجدها ترتد بعد أكثر من حرب أهلية إلى تكوين الجيتوات الثقافية مرة بعد مرة. وها نحن الآن نشهد أريافاً عربية تدمر عواصمها، وعواصم تنقض على بعضها البعض، في مشهد يتفوق على أكثر صور لوحات الجنون السيريالي جنوناً. وفي هذا الجو تبدو الدعوة إلى لملمة شظايا ثقافة التعايش والتسامح نوعاً من العبث، فالكل شرب من نهر الجنون أو البلاهة كما يبدو. ومن هو ذلك الذي سيذهب غداً إلى صفه المدرسي ليعلم التلاميذ الصغار احترام عقيدة أو مذهب زملائهم، واثقاً من أن عصابة من هؤلاء التلاميذ لن تحطم زجاج سيارته؟ ومن هو ذلك الذي سيكتب وينشر الدعوة إلى التسامح وتعلم العيش بسلام مع مواطنه دون أن يعرّض نفسه إما إلى النبذ في أسوأ الأحوال، أو إلى السخرية في أفضل الأحوال؟