لتسهيل مدخل هذا الحديث: سنتخيل أن الثقافة بكل مكوناتها تراكم جيولوجي يشبه التراكمات الطبقية للأرض، فهي في العمق وفي السطح لها بقاياها وتأثيرها، ولها مؤشراتها، وبنيت عبر عصور طويلة من تجمع أمة وتفاعلها مع بعضها، وتم انتقاء مفردات الثقافة الصالحة وذاب بين صخورها كثير من المفردات غير الصالحة. هذا التراكم الطبقي للثقافة يصعب تحريك مكوناته وطبقاته، فكل تحريك له سيخل بأجزاء أخرى من التكوين. الطبقة المتحركة الوحيدة هي سطح الثقافة، أو طبقته العليا التي يجري تكوينها وتتعرض للمؤثرات، وهذه الطبقة هي فرصة المؤدلجين والحركيين لبث فكر جديد يغيّرون فيه الواقع، ويلعبون على صلابة المكونات الأساسية، لكن رغم سهولة التأثير الآني في الطبقة العليا من التكوين الثقافي، لا يمكن تحييد الأثر من الطبقات الصلبة الأساسية، فأي ما يتعارض مع ثقافة المجتمع أو يخالفها يتعرض للقبول، بقدر ما ينسجم ولو يتعرض للنبذ والتدمير إذا ناقض معتقدات وتقاليد المجتمع إلا في نطاقات ضيقة من التغيير، تأخذ زمنها المحتوم فتدخل في كلية التراكم الطبقي لتكون من مكوناتها بناء على صلاحيتها. لو فرضنا أن أدلجة أو ثورة تمت في المكون الأعلى من الثقافة، وجاءت بتغيرات جذرية للمجتمع وهو ما يحدث بعد التغيرات الكبرى في حياة المجتمع بعد ثورة أو طفرة اقتصادية مفاجئة لو حدث هذا فقراءة التاريخ ترشدنا إلى أن عمر أي أيديولوجي دخيل، وسطوته الحادة، وتطرفه لا تزيد على 40 عاماً، فيبدأ بالجنوح للاعتدال والعقلانية، فكل الثورات والحركات العالمية التي قامت على فكر أيديولوجي عنيف، ومهما بلغ تعصبه في أولها، وسطها يبدأ في التراخي بعد أربعة عقود ثم يتراخى، ويميل للاعتدال، ثم يأتي فكر جديد يحيده. كان الفكر الشيوعي أيام الاتحاد السوفياتي، وحتى في الصين أيام ماو جارفا في حينه لكن المتغيّر الاقتصادي فكّك هذه التركيبات في العمر الافتراضي لها 40 عاماً، وعندنا كان الفكر الصحوي يمسك بزمام الأمور في كل مفاصل الإدارة والتعليم، لكن الناس بعد 40 عاماً جنحوا للاعتدال أو أنه هاجس لكثيرين، حيث إن المرأة رمز المحافظة في ذلك الفكر بدأت تعمل وتشارك في الحياة بعد عزلة 40 عاماً. باختصار التراكم الثقافي الأعمق لا يتيح لمتغيرات وتجارب المجتمع البقاء في حال تعارضها مع المكونات الثقافية الأعمق من التركيبة التي شبّهناها بطبقات جيولوجية يحفظ أسفلها كيان أعلاها.