اللغة مثل الماء يستخدمها الصادق والكاذب والمنافق والأشد نفاقا والشاعر والعالم، ومن في قلبه ضوء ومن في قلبه ظلام.. ولكن لها قدرة عجيبة على كشف قائلها، وتعرية نواياه وإسقاط الأقنعة عن وجوه من يتكلمون بها.. هل ذلك عائد إلى الأسلوب؟ هل عائد إلى تشبيه القدماء لها بالإناء؟ ونحن نعرف منذ القدم بأن «وكل إناء بالذي فيه ينضح». لا أريد أن أثقل عليك بذكر حشود من الكتّاب الذين يجيدون غسل ألفاظهم بالماء والصابون، ولكن تناقضهم يفضحهم بسرعة، فما يقوله الآن يقول نقيضه غدا، كالتي «نقضت غزلها» تماما. لكن في «زمن الهرولة» هذا كما يعبر نزار قباني.. من الصعب على الأكثر من الناس فحص ما يسمع.. فقد اُخترعت طرق لجعل الكذب ذا وجه ضاحك جميل؛ من أشدها مكرا أن تطل عليك حسناء تتفجر فتنة من إحدى الفضائيات وتقرأ عليك خبرا ما.. تقرؤه «وبراءة الأطفال في شفتيها». ولكنها هي نفسها تعتقد أنه كاذب وأنه مثل ما تراه في فيلم هندي حين يرمي نفسه من الطابق العشرين ويقع على رأسه، ثم يقوم راكضا لا يلوي على شيء، كما يقول القدماء. وحين تدخل إلى مدينة الشعر تدخل فيها ومقولة القدماء «أعذب الشعر أكذبه» تحاصرك حتى الاستسلام اللاشعوري لها.. ولكن يبقى كل إناء ينضح بما فيه. نعم: فأنا لا أعترف بمقولة القدماء هذه، وأعتقد أن اللغة نفسها التي تشير بيدها إلى أن هذا عذب وذاك أجاج.. يمكن أن تقرأ- مثلا: «وترحلين بقرار صائب كما تظنين وقلب ذاق الألم في هواك سنين وورود ذبلت وصارت بلون الغروب الحزين مالي أراك بعذابي وشقائي تفرحين وكأني لك عدو مبين؟» حين تقرأ هذا، ألا تشعر بأن اللغة تحثو على رأسها التراب؟ في حين أنه ليس فيه مخالفة للنظرية الأخلاقية القديمة؟ وحين تقرأ: «كما تتبع النشوة القبلة والنوارس للموجة السفلى والقمر للموعد الأول أتتبع نهوضك في خيالي» ألا تشعر حين تقرأ هذا بأن اللغة قد «تبرّجت تبرّج الأنثى تصدّت للذكر» كما يقول ابن الرومي؟ لا أحد -قديما وحديثا- من المحبين أو الاعداء يشك في الشاعرية الباذخة للمتنبي، ولكن حين تقرأ غزله كله لا تجد سوى حطب لغوي لا تستسيغه حتى النار..