نضرب مثلاً بالمصري في حبه لمصر، فهي له خط أحمر، يتساوى في ذلك المثقف والعامي. بلد قليل الموارد، يقوم اقتصاده غالبا على تحويلات أبنائه في الخارج. ومع ذلك فهي مصر، صوت يعلو ولا يعلى عليه في المحافل الثقافية والاجتماعية وفي أي نقاش يكون فيه أحد الأشقاء المصريين طرفا. هناك من حاول اختطاف مصر من قلوب المصريين وقناعاتهم، لكنها بقيت صامدة، وسلّمها الله. عندما توحدت المملكة في دولتها الثالثة كان أبناء شبه الجزيرة أشتاتاً، لا يجمعهم كيان سياسي واحد، ولا يتطلعون لأكثر من معاشهم اليومي. بيد أنهم أهل بأس، وقوة، وتمسك بالأرض، وغيرة عليها، منتمون للمكان، وعلى قدر كبير من الوفاء والمسؤولية، تمتعوا فطريا بمواصفات المواطن الصالح الذي لاوطن له بالمفهوم الحديث للمواطنة. لم يأت إليهم الموحد –رحمه الله- بعسل في ملاعق من ذهب، ولا بمكرمات ولا بعطايا، ولا بوعود زائفة، وإنما حمل إليهم بمساندة سواعدهم وطنا سقوا غرسه الغض بدمائهم، فكتبوا حضورهم على الخارطة الجغرافية السياسية العالمية. وعندما حان وقت بناء الدولة، أسهموا في ميزانيتها السنوية بنسب تفوق أحيانا 70% على شكل ضرائب يدفعونها على مبيعاتهم. مواطن حديث العهد بالدولة يدفع الضرائب، ويعاني من شظف العيش، حيث الرواتب ملحا ثم تمرا لاحقا، إلا أنه محبٌ وفيٌّ غيورٌ على وطنه لم تخترقه المغريات من البر والبحر، ولم يجد في الانتماء للوطن ما يناقض الدين ويشعره بالاثم، ليأتي عصر الصحوة فيصبح الوطنُ "وثناً" نصّبه المستعمر، واستبدلت الأمة بالوطن، فغدت "مهديا منتظرا"، وكلما لاحت شبهة للتعجيل بظهور "الأمة" أعلن الصحويون النفير وقدموا أبناء المسلمين قرابين لمنتظرٍ لايأتي. الأمة أيها الناس ليست في سرداب يمكن أن تظهر في أية لحظة، فهي لم تغب منذ جعلنا الله سبحانه وتعالى أمة واحدة، ذلك أن أوطان المسلمين مجتمعة تشكل الأمة، وقوتها تأكيد لوجودها وتعزيز لمكانتها. هكذا يجب أن تكون الأوطان. تغلغل الفكر المعادي للوطن في مفاصل مجتمعنا، ولم يسلم منه وبنسب متفاوته أحد، وبشرنا الناس بقرب منتظرهم "الأمة"، فغدوا مشتتين في انتمائهم: بين عاطفة جياشة وغريزية للوطن، وشعور بالذنب يجلد ضمائرهم لحرمة الانتماء إليه. تشكيك الناس في مواطنتهم جعلتهم في بلدانهم كالمستأجرين، يعتبرونها محطات ثانوية بانتظار قطار الأمة المتظر. وغدا الوطن حالة مؤقتة، وهو ما يفسر كثيرا من تصرفاتنا تجاه الوطن ومكتسباته. عقلاء يسألون: كيف تصل "أمة" بر الأمان ولايكون قلبها النابض هذا الوطن العزيز الكريم المملكة العربية السعودية؟ وأعداء يسألون: كيف تأتي "الأمة" والمملكة شوكة في حلوقهم؟ فكان السلاح الأكثر مضاء للتعجيل بظهور "الأمة" يتمثل في تشكيك الناس في عقيدتهم، فإن هم أخلصوا لبلادهم وقيادتهم الولاء فقد خانوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالوطن ما هو إلا "وثن" يتعارض مع تمام الإسلام. الحقيقة الصادمة أنه يتساوى في التأثر بهذا التشكيك المتدين والعاصي، والمحافظ والمفرط، والبر والفاجر، بل وحتى من يصفون أنفسهم بالليبرالية لم يتمكنوا من الانعتاق من هذا الإرث. وأصدقُ القارئ العزيز أن من بواعث هذه المقالة أنني تتبعت صحيفة يومية تصدر في عاصمة خليجية ويرأس تحريرها صحفي سعودي عرف بمشاكسته وشدة نقده لبلاده في الوسائل الإعلامية السعودية التي رأسها أو كتب فيها، لكنه في صحيفته الخليجية تلك بدا لي حملا وديعا "وش زينه"، فالجريدة من الغلاف إلى الغلاف لم أجد فيها سوى مادة نقدية واحدة، وعلى استحياء، وبموضوعية كاملة. أسد علي وفي الحروب نعامة؟ أم هي لقمة العيش؟ أم مقولة ياغريب كن أديبا؟ من أثق بحكمته قال لي "بأن عدم الغيرة على الوطن لغياب الوطنية لدى هذا النوع من البشر هو السبب" في ازدواج المعايير لديهم. لقد سكننا الوباء بطيفنا العريض، وعلينا أن نعيد صياغة الوعي وبسرعة، والتأكيد على أن حب الوطن من كمال الإيمان وليس من نواقض الإسلام، وبدون هذا فلن يستقيم البناء ولن تبرز المنجزات الضخمة ولن تستقيم حالنا، فنحن بدون تعزيز المواطنة وتأصيلها نقلا وعقلا، وضخ حب الوطن في شرايين أبنائنا وبناتنا سنبقى متأرجحين بين مصالح شخصية نحققها من هذا الكيان المؤقت في أنانية لاتخطئها العين، وبين أمة نتوقع وصولها بين الحين والآخر وتتعلق بها جوانحنا لعلنا نموت على الإيمان الذي لايخالطه حب وطن. وأختم بفقرة من خطبة لإمام المسجد الحرام الشيخ ابن طالب نشرتها هذه الصحيفة قبل عدة سنوات وقال فيها: "ان من مقتضيات الانتماء للوطن محبته والافتخار به وصيانته والدفاع عنه والنصيحة له والحرص على سلامته واحترام أفراده وتقدير علمائه وطاعة ولاة أمره. فمن مقتضيات الوطنية القيام بالواجبات والمسؤوليات كل في موقعه مع الأمانة والصدق ومن مقتضيات حب الوطن احترام نظمه والمحافظة على مرافقه وموارده الاقتصادية والحرص على مكتسباته وعوامل بنائه ورخائه والحذر من كل ما يؤدي الى نقصه". فهل نقص إيمان الشيخ؟ وهل عقيدته في خطر؟