رغم كل الزخم الإعلامي والشبكات العنكبوتية والانفجار الاتصالي الهائل، الذي جعل العالم، كما يُقال، قريةً، والكل مكشوفًا أمام بعضه البعض، ورغم أن وسائل الإعلام الجماهيرية الأكثر مهنية وشهرة وإمكانيات تدعي أنها لا تعترف بالأحداث الغامضة والفاعلين السريين، فإن استمرار غموض ظاهرة تنظيم داعش، يشكك في فكرة أن الضوء الإعلامي اليوم يجهر كل الخبايا والمختبئين معًا. لقد ظل تنظيم داعش ظاهرة غامضة في كيفية ظهورها وسيرورتها ومصادرها التمويلية؛ غامضة رغم أن الظاهر يقول إن كل القوى الكبرى، وحتى الإقليمية في العالم اليوم، مشغولة بهذا التنظيم وتسعى جهرًا وسرًا إلى القبض على أسراره ومعرفة من يقف وراءه ومن يدعمه من وراء الستار. طبعًا، من الصعب التصديق أن جماعة متطرفة تتزعمها عناصر مقفلة العقل والقلب والروح قادرة على مراوغة الجميع بما في ذلك الأكثر قوة استخباراتية وعتادًا في العالم. مرت الآن قرابة عشرة أشهر منذ انطلاق حملة التحالف الدولي لمطاردة تنظيم داعش، وفي كل مرة نبتهج لتحقيق أهداف مهمة، ولكن قبل أن نفرغ من بهجتنا القصيرة الزمن والأنفاس، تأتينا الأخبار بخبر تقدم تنظيم داعش في مدينة جديدة، وآخرها سيطرته على مدينة تدمر السورية التاريخية. وعوض أن يتراجع إجرام «داعش» وينكمش ويتضاءل، فإن الواقع يقول إن هذه العناصر الهجينة والمطاردة بصدد تحقيق «انتصارات» فوق الأرض في مناطق ساخنة، الشيء الذي يزيد في الحيرة ويُراكم التساؤلات الاستنكارية. فالأمر الوحيد الواضح بالنسبة إلى تنظيم داعش، هو بشاعة المجازر التي يقترفها بشكل متواتر. وهو في حدّ ذاته وضوح لازم جرائمه منذ بداية نشاطه. بمعنى آخر، فإن معرفتنا بهذا التنظيم ظلت شحيحة وقائمة على افتراضات وقراءات حذرة، ولم نستطع أن نعرف عن تنظيم داعش إلا ما أرادت قيادات هذا التنظيم نشره وبثه في المواقع الإلكترونية. وكل ما قامت بالكشف عنه والاعتراف به فإنه لم يخلف سوى المزيد من الغموض والمزيد من الخوف والكثير من الاستغراب. من جهة أخرى، فقد بدأت تتضح شيئًا فشيئًا الوظائف التي يؤديها تنظيم داعش، والتي تدور بالأساس في خلط الأوراق وفي إذكاء الفتنة والشكوك والتوترات المذهبية. إذن، كنا ننتظر بعد كثافة ضربات التحالف الدولي، ومنها الضربات النوعية، أن يتم تقليم أظافر هذا التنظيم، ولكن ما حصل هو أن «داعش» أضحى يمتاز بسمنة مفرطة تتمظهر في مجازره وغزواته للمتاحف والمدن وترويع السنة والشيعة. وفي الحقيقة، لقد شغلتنا الأسئلة المرتبطة بظاهرة ما يسمى «داعش» أكثر مما يجب. فكان السؤال الأول: هل «داعش» حقيقة أم فيلم هندي؟ وهو سؤال أفرزته حالة الصدمة التي عاشها العالم عندما أعلن هذا التنظيم عن وجوده من خلال جرائم صادمة ومن فرط بشاعتها كانت غير قابلة للتصديق. ثم عندما تأكد الجميع من أن «داعش» حقيقة وواقع مع الأسف، كان السؤال الثاني: من يقف وراء «داعش»؟ وأمام صعوبة تقديم إجابة فاصلة وواثقة وحاسمة، فقد عمل الكثير على تحويل وجهة هذا السؤال نحو آخر، وهو: من المستفيد من تنظيم داعش؟ وكما نلاحظ، فإننا أمام تمشٍ بوليسي محض يعمد إلى التعرف إلى الأطراف المستفيدة من وقوع جريمة، وهو السؤال الجوهري والأساسي الملازم لكل التحقيقات الخاصة بالجنايات في العالم. وبقدر ما كانت هناك عناصر ومعطيات ونتائج، تظهر أحيانًا استفادة طرف من أطراف الصراع في المنطقة من ظهور «داعش»، وتحديدًا تداعيات مجازره، فإن نفس ذلك الطرف تجد أنه أيضًا متضرر من جرائم «داعشية» أخرى. إذن، هناك براهين تُحدد الجاني، وأخرى تنفضُ عنه نفس التهمة. وهو ما جعلنا ندور إلى حد الآن في حلقة مفرغة. وأثناء هذا الدوران الجماعي حقق «داعش» انتصارات فوق الميدان. أحيانًا، يبدو «داعش» كالطعم لاستدراج طرف على أهبة الاستعداد للاستدراج. ولكن المنطق يقول إنه ليس من صالح أي طرف حصول هذا الاستدراج ولا الاستجابة له. مع تنظيم داعش، ندرك كم هو صعب محاربة عدو غامض الأجندة الفعلية. ذلك أن القول بمشروع «دولة الخلافة الإسلامية» المزعومة يمثل غطاء تمويهيًا لأن جرائم «داعش» لا تمت بصلة لأي تيار من التيارات التي تتدثر برداء الدين. فهو التنظيم الأبشع والأكثر تلذذًا بالدماء وبقطع الرؤوس والمجازر الجماعية، أي إنه تنظيم لا صلة له بأي دين. والثابت الوحيد أن هذا التنظيم تمكّن إلى حد الآن من تعقيد الأوراق السياسية والطائفية في المنطقة. لذلك فإن الأجندة التي يعمل على تنفيذها هي ضد مصالح كل دول المنطقة آجلاً وعاجلاً. الأمل الآن في انتظار تشكيل القوة العسكرية العربية، كي تتكاتف ضرباتها المتوقعة مع ضربات التحالف الدولي.. وربما ساعتها يفقد «داعش» سمنته المفرطة.