كتبت لك كثيراً وكتبت عنك كثيراً، وكلمتك كثيراً وتكلمت عنك كثيراً، وواكبت دربك كتفاً بكتف ويداً بيد... كنت أراك الأنقى والأقوى، وكلما زاد نقاؤك زادت قوتك... يا مَن اخترت الطريق الصعب في زمن ليس لنا، وحافظت على بياض الوجه والذمة، ورفعة الجبين، واستقامة القامة، وعفة اللسان، ومكارم الأخلاق، وشهامة الموقف، وفروسية الاختلاف. لا أذكر أن يوماً مرّ ولم يمر صوتك في اذني، ولا أنسى أنك كنت كتاباً مفتوحاً تقلّب منه ما تشاء من صفحات بسعادتها وتعاستها... تخبرني بكل شيء، من احترامك لبعض من اختلفوا معك في الرأي إلى ظلم ذوي القربى من النظام. ومن فرحتك بوعي الناخبين إلى صدمتك من حجم الحقد أو مستوى الطعن في الظهر الذي لم تعرفه الكويت. ومن افتخارك بالتفاف غالبية الكويتيين حول رمزهم ووحدتهم الوطنية ومن خوفك لِخرق بعض الكويتيين سقف هذه الوحدة واستحضار أبشع الخُطب الطائفية والمذهبية... وإن أنسى فلا أنسى وصيتك الدائمة لي بألا أعكس في مؤسساتنا الإعلامية حجم المرارة الخارجة من توصيفك للأشخاص والمواقف بل أن أركز على الأمل «لأن الناس مو ناقصها». لن أتحدث عنك بوصفك رمزاً سياسياً من رموز العمل الوطني والسياسي والاجتماعي والإنساني في الكويت فحسب بل سأتحدث عنك أكثر بوصفك جاسم الخرافي الإنسان وابن عمتي وأخي وصديقي ورفيقي. كنت أفرح عندما تحقق نجاحاً ما فتوقف انجرافي لتخبرني أن الفضل لله وللناس، وكنت اشتعل غضباً عندما يساء إليك بأحط الأساليب وأبشعها فكنت توقف غضبي لتخبرني أن الناس تميز وتقود ولا تنقاد، وان ما عند رب العباد ليس عند العباد، وان المكر السيئ يَحيقُ بأهله. رجوتك مراراً أن تخلع ابتسامتك عن وجهك عندما تصادف السفهاء والطاعنين في الظهر فرفضت، وأن تخلع بشت المعاناة اليومية عن كتفيك فرفضت. كنت دائماً تبحث عن أعذار للآخرين وأنت تعرف أن النيات غير صافية والمبررات غير صادقة وعندما تكتشف أن لا حياة لمن تنادي كنت تعود إلى مِحرابك الخاص في الذاكرة والتفكير وتفتح كتاب وصايا والدك رحمه الله وتستعين بها لرسم معالم الطريق... «الوالد رحمه الله يا بو مرزوق كان يقول اللهم سلّحني دائماً بالصبر والحِلم والحكمة والقدرة على المغفرة ولا تجعلني ضعيفاً بحرماني من هذه القوة». ما أنزل دمعك إلا طالب حاجة، وما أسعدك وأشرق ضحكتك مثل نجاح طالب علمته أو شفاء مريض كنت مهتماً بوضعه الصحي. لم تفقدك السياسة في أي يوم لمسة من إنسانيتك ولذلك كانت بصمتك مختلفة على صفحة العمل الوطني. كنت الأقرب إلى الجميع في المجلس بمن فيهم مَن اختار محاربتك بالوكالة، وكنت الأقرب إلى الجميع في الحكومة بمن فيهم مَن حرّض لمحاربتك في المجلس، وكنت الأقرب إلى أسرة الحكم بمن فيهم مَن رأى في إدارتك لشؤون العمل التشريعي والرقابي عرقلة لطموحاته... وكنت الأقرب إلى الناس (وهذا الأهم عندك) خصوصاً عندما تنفلت ضدك أحقاد النرجسيين وسفاهة الجُهّال وقذارة المفترين. أما نحن، أهلك وأقرباؤك وعائلتك، فقد كنت زهرة أيامنا العطرة. أول الموجودين في الأتراح والأفراح وآخر المغادرين بعد أداء الواجب. لا يفوتك السلام والسؤال والاستفسار حتى لو كنت بعيداً آلاف الأميال... دائماً الأقرب إلى الجميع توليهم اهتمامك في شؤونهم الخاصة وكأنها شؤونك. صاحب ابتسامة لاتغيب وصانع الفرح والسعادة حتى في أحلك الظروف. كتبت لك كثيراً وكتبت لي. وما زلت احتفظ بمراسلاتك يوم كانت المكاتيب وسيلة تواصل، وما زلت احتفظ بخطوطك التي ما تغيرت... وأعود إليها لأبحث بين السطور. وكتبت عنك كثيراً وكنت ترجوني بقلبك الكبير ألا أقسو على أحد وألا أحرم الناس من الأمل. وكلمتك كثيراً وكلمتني كثيراً ويعرف القريبون مني كيف كانت محادثاتنا على مدار اليوم تتناول كل شيء من الخاص إلى العام... كنت الملاذ لي لبث ما في الصدور من هموم وشجون وكنت ملاذك لتفريغ ما في صدرك من هموم وشجون، فلمن ألجأ اليوم؟ ومن سيعوضني سعة الصدر وحكمة الرأي؟ وواكبت دربك كتفاً بكتف ويداً بيد... واكبت دمعك على كل فرد من أفراد عائلتك الصغيرة أو عائلتك الكبيرة - الكويت خسرته في غفلة من الزمن وكان الصبر ملاذك. كنت الأنقى والأقوى، يا مَن اخترت الطريق الصعب في زمن ليس لنا... وكنت تحتج وتقول إنه زماننا مهما ملأته القنابل الصوتية والخناجر المعكوفة. واليوم، أكتب لك وعنك بحبر الدمع وأعرف أنك لن تستجيب، ولن تعاتبني على قساوتي أو تطلب مني ترك شبابيك الأمل مفتوحة. اليوم أنتظر كلامك يأتيني عبر الهاتف وأعرف أنني أحلم وأطلب المستحيل وان كل ما سأسمعه صدى صوتك السابق في محراب الذكرى. اليوم أبحث عن دربك لأواكبه كتفاً بكتف فأشعر بأن لا كتف لي ولا ظهر، وان مرارة المغيب حاصرت حرارة الحضور، وان وحشة الطريق تزحف على عقلي وقلبي ووجداني. كلما كنت تعود من سفرك كان أحفادك وأولادك يفتحون أذرعهم في المطار لاستقبالك... أمس عدت من سفر قصير إلى سفر طويل وفتحت الكويت قلبها لاحتضانك. يا أبا عبد المحسن، يا أقرب الناس لي، يا رفيق الدرب، قهرني القدر بخطفك في ليلة ظلماء، واخالك واجهته بابتسامتك المعهودة وسكينتك المعهودة واحترامك المعهود... ربما استأذنته لتلاوة الشهادتين والدعاء، وانتظرك كي تودع دنياك برقيّ مثلما عشتها بعز. إلى جنة الخلد ياحبيبي وتوأم الروح... إلى جنة الخلد يا وجه الخير والمحبة... إلى جنة الخلد يا وجه الكويت. جاسم مرزوق بودي