من رأى أوباما، وهو يجامل قادة دولة الخليج في كامب ديفد، ومن تأمل في غياب العاهل السعودي عن القمة، وذهاب العاهل البحريني لحضور سباق خيول في بريطانيا بدل الذهاب إلى القمة، سيدرك أي بؤس تعيشه الولايات المتحدة في هذه المرحلة. لو عدنا بضعة عشر عاما إلى الوراء، وتأملنا الموقف. هل كان بوسع أي من العرب، بل حتى الدول الكبرى أن تتمرد على أميركا على هذا النحو؟ كلا بكل تأكيد، فقد تسلم بوش من كلينتون إمبراطورية في ذروة العنفوان، لم تبلغ أية إمبراطورية في التاريخ ما بلغته من قوة على مختلف الأصعدة، لكنه (أعني بوش) وعبر مغامرات مجنونة في العراق وأفغانستان ما لبث أن وضعها على سكة التدهور وصولا إلى تشجيع المتمردين عليها، من أميركا اللاتينية إلى روسيا والصين، وليس انتهاء بعرب كانوا في حالة ذعر منها عشية هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001. " لا تريد أميركا خسارة اتفاق النووي الذي طاردته طويلا، في ذات الوقت الذي لا تريد فيه خسارة الحلفاء في الخليج، فكانت قمة كامب ديفيد من أجل لملمة الوضع، لكن أوباما اللاهث خلف اتفاق النووي، لم يكن بوسعه غير تقديم تطمينات غير مقنعة للحلفاء " حينما سقط نظام زين العابدين بن علي، ومن بعده حسني مبارك، أدركت الأنظمة العربية أن أميركا لم تعد تحمي حلفاءها، وأن عليهم أن يخلعوا شوكهم بأيديهم، فتولوا تدبير أمر الثورة المضادة التي نجحت في مصر، ونسبيا في تونس، ولا زالت تفعل فعلها في ليبيا، بينما يعرف الجميع ما آل إليه الوضع في اليمن. وبينما كانت الأنظمة تحتفل بإنجازها في مصر، إذا بها تُفاجأ بما جرى في اليمن، وهي التي كانت في طور التفكير بما يمكن أن تفعله لتعديل ميزان القوى مع إيران في العراق وسوريا بعد غياب الأولوية التي حكمت سلوكها في المرحلة السابقة، ممثلة في مطاردة ربيع العرب وما يسمى الإسلام السياسي. في ذات الوقت، وجدت تلك الأنظمة أن الغزل بين إيران والولايات المتحدة يتطور على نحو مخيف، ويقترب من عقد صفقة على النووي قد تشمل ملفات أخرى، ولذلك بدأت تنفض يدها من أميركا، فكانت "عاصفة الحزم" في اليمن، مع قدر من دعم التصعيد في سوريا. من جهتها، لا تريد أميركا خسارة اتفاق النووي الذي طاردته طويلا، في ذات الوقت الذي لا تريد فيه خسارة الحلفاء في الخليج، فكانت قمة كامب ديفد من أجل لملمة الوضع، لكن أوباما اللاهث خلف اتفاق النووي، لم يكن بوسعه غير تقديم تطمينات غير مقنعة للحلفاء. فوراء كل فقرة ضد إيران في بيان كامب ديفد، كانت هناك فقرة أخرى تنفّسها. والنتيجة هي استمرار قناعة الأنظمة المعنية بأن عليها أن تواصل خلع شوكها بأيديها، من دون أن تتخلى عن تحالفها مع الولايات المتحدة. واشنطن بدورها في حاجة للتحالف مع الخليج، والذي يُدر مصالح بلا حصر، في مقدمتها صفقات أسلحة فلكية، كما أن نهجها كدولة إمبريالية لا يسمح باختيار فريق على فريق، والأفضل هو بقاء الصراع قائما، ولذلك يتبدى تناقض المواقف بين الملفات المختلفة. في اليمن، لا بأس بأن تتبنى واشنطن جزءا كبيرا من المقاربة الخليجية في التعاطي مع الوضع هناك، من دون كثير استفزاز يؤدي إلى صدام مع إيران، وفي هذا السياق جاءت المطالبة الأممية للسعودية بالتخفيف من شروطها لإدخال المساعدات الإيرانية لليمن. أما في العراق، فتدير واشنطن اللعبة على إيقاع المساومة مع إيران على النووي، فلو وضعت هناك ثقلا يؤدي إلى تفوق الحكومة العراقية، فستخدم إيران، لا سيما أنها تعلم أن العبادي لا يتحكم بالوضع الذي تسيطر عليه مليشيات تديرها إيران بشكل مباشر. ولذلك هي تتدخل في حدود معينة، كما حصل في الشمال وفي بغداد وتكريت، وهي تعد بشيء مماثل الآن في الأنبار، ولكن بمساومات وشروط تحت الطاولة على الأرجح. " مصلحة أميركا تتمثل في استمرار هذا الحريق في المنطقة، وهي ذاتها مصلحة الكيان الصهيوني، وهو حريق يستنزف إيران وحلفاءها، بل ويستنزف المنطقة برمتها، ولن يتوقف حتى تتعب إيران من النزيف وتقبل بصفقة متوازنة مع العرب وتركيا. متى؟ لا ندري " في سوريا، تحضر المصالح الصهيونية، في ذات الوقت الذي تحضر فيها المساومة مع إيران لإنجاز الاتفاق النووي النهائي، ومصلحة الكيان الصهيوني هي في استمرار الصراع لاستنزاف محيط من الأعداء على تفاوت في مواقفهم (مواقف الشعوب محسومة)، وهو موقف يمثل جميلا لإيران التي لا زالت تعيش وهمَ الإبقاء على بشار الأسد. ولذلك كان أوباما صريحا بالقول إن المسألة السورية لن تحل خلال ولايته، مع أن بوسعه أن يحلها لو كان خياره الإطاحة بالنظام. خلاصة القول هي أن مصلحة أميركا تتمثل في استمرار هذا الحريق في المنطقة، وهي ذاتها مصلحة الكيان الصهيوني، وهو حريق يستنزف إيران وحلفاءها، بل ويستنزف المنطقة برمتها، ولن يتوقف حتى تتعب إيران من النزيف وتقبل بصفقة متوازنة مع العرب وتركيا. متى؟ لا ندري. في مقابل ذلك، تبدو المواقف الأخيرة للخليج، بقيادة السعودية جيدة، أكان في اليمن، أم بدعم تصعيد ضد النظام في سوريا، ولا شك أن الرد الآخر ينبغي أن يتمثل في تنويع التحالفات، وحضور الرئيس الفرنسي قمة في الرياض جزء من ذلك، لكن الصين وروسيا مهمتان أيضا، والصين تحديدا لن تختار إيران على الخليج إذا خُيّرت بالفعل، وروسيا ستفكر مليا في الموقف إذا تمت مساومتها، وموقفها من قرار مجلس الأمن ضد الحوثي وصالح دليل على ذلك. لكن ذلك كله لا يغني أبدا عن قدر من المصالحات الداخلية التي تدفع الشعوب للالتحام مع أنظمتها ضد التحديات الخارجية، وإن كانت تفعل حتى دون ذلك أحيانا، كما في الموقف الشعبي العربي من عاصفة الحزم، وعموم الموقف من التصدي لغرور إيران، والذي ستبقى المنطقة برمتها في انتظار نهايته لمصلحة الجميع، وفي المقدمة الشعب الإيراني كجزء من شعوب المنطقة.