لا تستطيع تلمس فارق المدن عن القرى إذا كنت من أبناء المدينة؛ لكن أبا علي الذي جاء لزيارة ابنه لأول مرة في المدينة التي يعمل فيها، صدمه سوء أخلاق الناس، بعدم رد السلام، أو تجاهل وجوده لو سأل أحدهم، وعدم مبادلته أطراف الحديث في صالة انتظار، وضايقه الفلتان في اللبس والشكل لبعض من يراهم، لكنه لم يرَ الأمر الأصعب المتعلق بجانب الأخلاق والالتزام بالقانون. أكثرنا في المدن جاء من قرى وقبائل تحكمها أعراف وتقاليد، يؤدي الخروج عليها إلى عقاب شديد، أو نبذ المجتمع، وهنا يحفظ الناس حدود حرياتهم في حدود ما تقبله وترفضه هذه التقاليد في العلاقات، والمعاملات وحل الخصومات؛ حيث الكلمة الأخيرة للحكماء ولو لم تكن قانونا، أو عدلا في القرية، فهي ملزمة، لأن كبار القوم يعرفون الصالح العام للجميع. هذه الصيغة لا يمكن تطبيقها في المدن لتنوع الوافدين إليها، فرغم أن أعرافنا وتقاليدنا متشابهة، إلا أن تقيد شاب في المدينة يبدو صعبا، لأنه ليس أمام أعين قومه وقانون العيب، ولأن وجوده بين أناس غرباء يشعره بنوع من الانفلات والحرية، بأفعال لم يكن يفعلها في نطاق قبيلته أو قريته، وهذا ما يجعل من الضروري في المدن والتجمعات الحضرية تطبيق نُظم وقوانين صارمة قد لا تكون ضرورية في قرية أو مجتمع قبيلة، ولا بد من صرامة التنفيذ بعيدا عن المحسوبيات، والواسطات، لأن أي قانون يُخترَق ليس بقانون. حقيقة إننا حديثو عهد بمجتمع المدينة، حيث لا يزيد عمر أي مدينة في مجتمعها السعودي على خمسين سنة، وهذا لم يرسخ مفهوم القانون الصارم للمدينة في عقول كثيرين، ولذلك نرى الكثير من خروقات النظُم مع تقصير في تطبيق العقوبات، في الجنح، والتجاوزات والمخالفات، لغياب الرقابة. حداثة عهدنا بالمدينة والمجتمع الحضري لا تعفينا من ضرورة التثقيف بالنظُم، وتطبيق العقاب لكل تجاوز، لزرع وازع القانون مع جهد في التربية والتعليم للتثقيف بالنظم، والقوانين، وأهميتها لمصلحة الجميع. إذا عاش أبو علي في المدينة لبعض السنوات القادمة فسيعرف أن قانون القرية لا يعمل، وسيبدأ مخالفة النظام، لأنه لا أحد يعرفه، فالإنسان في المدينة لا يعرف جاره الملاصق له، ولكنه يتعايش معه بالنظام والقانون المطبق على الجميع، وليس بالعُرف ولا بالمعرفة، ولا بقانون العيب.