إن مهمة التعليم ليست تدريس العلوم المهنية التي تساعد على ممارسة مهنة معينة أو تدريس علم تخصصي محدد مختزل في دهاليزه، وإنما المهمة الأولى للتعليم هي بناء العقل والإنسان، فالإصلاح في جميع المجالات من غير تأسيس عقلي وعقلاني له على المستوى الشعبي لهو مضيعة للوقت، بل إن سن أنظمة من غير أن يكون هناك أساس عقلي شعبوي -لا تعدو أن تكون هذه الأنظمة مكملة له- لن تؤتي ثمارها، لأن الأنظمة مع التأسيس العقلي كالكفارات والعقوبات الدينية مع الإيمان، فإنها لا تصلح بلا إيمان، فكذلك الأنظمة لا تصلح بلا عقلانية فالأمران إذاً مترابطان، ناهيك عن محاربة التطرف والعنصرية والطائفية والمذهبية وغيرها، فلا يمكن أن تنجح هذه المحاربات دون تأسيس عقلي للمجتمع، وأقصد بالعقل ذلك العقل الذي يجعلنا بلا متناقضات ومنبثق من الإنسانية ومؤطر لها، وموصل لقيمها لا العقل الحسابي المادي، أي أن تكون الإنسانية والعقلانية ركيزتين رئيستين جديدتين وبديلتين للأيديولوجيات السائدة، وحتى نصل إلى هذا النوع من التأسيس العقلاني لا بد أن يشترك التعليم والإعلام في خلقه، ولكني سأركز هنا على التعليم. فالتعليم يحتاج لإدخال الفلسفة إليه كبذور وكنواة أولى للتأسيس العقلاني للمجتمع، وإذا تنكبنا لهذا الطرح ولم ندخل الفلسفة في مناهج تعليمنا فربما كنا شركاء في صناعة الجهل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالعقل أو العقلانية التي من شأنها زيادة الوعي لا تهبط من السماء ولا تنزل بها الملائكة إلى البشر، وإنما لابد وأن تعطى لهم وإلا فإنهم لن يتطوروا بحال، والمراهنة على تعاقب الأجيال أو مرور الوقت كوسائل لبث العقلانية مستقبلا لهو رهان خاسر، بل سيؤدي هذا إلى تراكم الجهل عبر الأجيال، وهو ما حدث منذ القرن الرابع الهجري، فقد تراكم الجهل بعد أن وأد العقل ولم تتوعَ الشعوب بفعل مرور الزمن كما يُدّعى، والمفكرون في المجتمعات الأخرى يشتكون من تراجع مستوى التطور البشري عبر العقود الأخيرة. إن الفلسفة الآن لم تعد تلك الفلسفة اللاهوتية المتداخلة مع علم الكلام التي كثر الأخذ والرد بشأنها قديما، وإنما ما نقصده فلسفة الإنسان، أي التي محلها الإنسان والحياة، حيث إن دخول العصر من غيرها هو نوع من التوهان البشري في قراءة ودراسة وتحليل الأشياء، فهذه ليست قاصرة على النخب أو الفلاسفة وإنما حتى الفرد البسيط لا بد أن يضطلع بشيء من التحليل وقراءة الحدث، وهذه لا تتأتى من غير دروس مبسطة في الفلسفة تعطى في المرحلة الثانوية مع تبسيط لها ليستوعبها من كان في هذه المرحلة، وتعميقها في المرحلة الجامعية، التي يجب أن توضع فيها متطلبا جامعيا عاما لكل الكليات والتخصصات، وأن تشتمل هذه المناهج الفلسفية على مواضيع مهمة كمفهوم السببية والعلل (جمع علة) ومسألة الإمكان دون التطرق للأشياء المرتبطة بالخلق والوجود، ومفهوم الحقيقة والظاهر أو الفلسفة المادية والمثالية والفرق بينهما، ومفهوم الخير والشر والأخلاق، والمتخصصون يستطيعون توضيحها وتبسيطها، وكذلك العلاقة بين العلم التجريبي والعقل، ثم ما يعرف بفلسفة العلوم أي الاستفادة من الفلسفة في ظل العلوم الحديثة، إضافة إلى نبذة مبسطة عن فلسفة التنوير ورجالاتها، إذ ليس من المعقول ألا يعرف الطالب كيف وجد هذا العالم الحديث المتحضر الذي يعيش فيه وكيف انتقل الإنسان من الحياة الأولى إلى الحديثة.