تقف تركيا اليوم على أعتاب انتخابات تشريعية استثنائية، مزمع اجراؤها في مطلع حزيران (يونيو) المقبل، وتلعب فيها «القضية السورية» دور الناخب الأبرز من دون أن يكون لها، او لجمهورها حق الاقتراع الفعلي. ووضع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ثقله في الحملات الانتخابية التي يفترض ان يبقى فيها على الحياد وفق الدستور، لكنه لم ينف تسخيره المال العام لتمويل الدعاية الانتخابية لحزبه ومرشحه الأبرز احمد داوود أوغلو، كما ظهر حاملاً نسخاً من القرآن في إحدى الجولات مستفزاً عصباً دينياً متنامياً. ثم توجه الى العمال في عيدهم مطلع الشهر الحالي، كأي رب عمل «اقطاعي»، يفترض أنه يملك خيارات عماله ولا يتوقع منهم في المقابل إلا الولاء والطاعة، فطالبهم علانية بألا «يكونوا منكرين للجميل». والأهم يبقى أن أردوغان لم يهمل استثمار «الصوت السوري» استثماراً سريعاً، وإن كان يعلم ان نتائجه الفعلية تبقى مؤجلة حالياً. فاللجان الانتخابية التابعة لـ «حزب العدالة والتنمية» أطلقت دعوات الى «الإخوة السوريين» للمشاركة الكثيفة في حفلات استقبال اردوغان في عدد من المدن التركية، «متمنية على الضيوف الكرام الحضور الكثيف». كذلك ارسلت تلك اللجان نفسها، عبر وسطاء محليين وسوريين «تطمينات ان الأمن سيكون على أعلى درجة من اليقظة والحذر لمنع وقوع اي اعمال شغب». تلك وغيرها رسائل بلغت عدداً من السوريين المقيمين في تركيا في شكل مباشر، فيما تكفل بتبليغ البقية نشطاء قد لا ينتمون بالضرورة فكرياً او سياسياً إلى حزب اردوغان، لكنهم يدركون أهمية الحشد له إعلامياً وتسهيل فوزه إن أمكن، كما وجدوا في المناسبة فرصة مواتية للتعبير عن الامتنان والعرفان. وإذا كان اشراك الوافدين السوريين في الجولات والحملات الانتخابية التركية تمريناً جديداً ومفيداً لجمهور عريض لم يختبر تلك التجربة في بلده من قبل، يبقى أن طموح «السلطان الجديد» كما يحلو لمعارضي أردوغان تسميته، يذهب أبعد من الاستحقاق التشريعي المقبل، ليعمل على تأسيس ولاءات متجذرة وبعيدة المدى لتيار سياسي عام. فحملات تجنيس السوريين و»تتريكهم» تسير على قدم وساق وبلا كثير ضجة. ويكفي أن يبرز أحدهم ورقة، اي ورقة، تعود الى الزمن العثماني لتسلك الإجراءات القانونية مجراها وتمنح صاحبها جواز سفر تركياً. وصحيح ان هذا الإجراء يحل مشكلة كثيرين ممن انتهت إقاماتهم أو يمكثون بلا أوراق رسمية، لكنه في المقابل يغذي ذلك الخزان السياسي ويرفده بناخبين جددٍ، في اي انتخابات مقبلة، وإن من باب العرفان ورد الجميل. وترتفع في الداخل التركي اليوم اصوات كثيرة مناهضة لحزب «العدالة والتنمية»، سواء من «الأتاتوركيين» الرافضين «تديين المجتمع وعثمنته» وما نتج من ذلك من تضييق اجتماعي وسياسي وإعلامي، والمتضررين من المواقف التركية حيال الثورة السورية والمناهضين لها، أو حتى هؤلاء الذين ما عاد يكفيهم الإنجاز الاقتصادي لغض الطرف عن مكتسبات كثيرة بدأوا يخسرونها. ويمتلك هذا التيار بمختلف أطيافه التنظيمية حظوظاً وافرة في الانتخابات المقبلة، ستفرض على اردوغان وحزبه تحديات كثيرة لا شك. وفي المقابل، يدرك السوريون المقيمون في تركيا ان أي اختلال في المعادلة الانتخابية المقبلة ستنعكس عليهم في شكل مباشر، وسيبدأ التضييق عليهم سواء في تركيا نفسها او لجهة عملهم المرتبط بالداخل السوري سياسياً وعسكرياً. وتتركز المعضلة السياسية بالنسبة اليهم في شقين، اولهما يتعلق بالمنتمين إلى «جماعة الإخوان المسلمين» أو من يؤيدونهم، وثانيهما يتعلق بجمهور التيارات الليبرالية والعلمانية وهم ليسوا قلة. فحلفاء «العدالة والتنمية» من السوريين يدركون ان «إخوانهم الأتراك» إنما يعملون تحت سقف نظام علماني لا زالوا هم غير قادرين على تداول احتمالاته اصلاً، فيما خصوم أردوغان من السوريين، والمستفيدون عملياً من موقفه السياسي- الديني المؤيد للثورة، يقرون ان فوزه وإن شكل ضمانة حيوية لهم، يبقى مما لا يتمنونه لأنفسهم. وبين جمهور يرى في «العدالة والتنمية» نموذجاً قابلاً للتطبيق في سورية المستقبل لكن من غير نظام علماني، وآخر لا يرى ضمانته وضمانة التنوع الاجتماعي والطائفي إلا ضمن هذا الشرط، يعوّل السوريون اليوم على تحقيق مزيد من الإنجازات الميدانية، كما يعوّلون على مزيد من التقارب الإقليمي لتحسين شروطهم في المفاوضات المقبلة. لذا، لا عجب إن كانوا يحبسون أنفاسهم في تركيا اليوم بانتظار انتخابات مصيرية بالنسبة اليهم، ولا يملكون فيها صوتاً. * كاتبة وصحافيّة من أسرة «الحياة»