دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- قبل خمسين عاما رفضت سيدة أمريكية سوداء أسمها روزا باركس أن تترك مقعدها في حافلة كانت تركبها في طريقها إلى منزلها الواقع في مدينة مونتغمري بولاية آلاباما في الجنوب الأمريكي بعد أن أنهت يوما حافلا بالعمل حيث كانت تعمل كخياطة. كانت قوانين الولاية في ذلك الوقت تنص على أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي وأن يصعدوا الحافلة من الباب الخلفي، وأن يجلسوا في المقاعد الخلفية. أما البيض فلهم المقاعد الأمامية، بل من حق السائق أن يأمر الركاب السود الجالسين أن يتركوا مقاعدهم من أجل أن يجلس شخص أبيض. ولكن في ذلك اليوم تعمدت باركس ألا تخلى مقعدها لأحد الركاب البيض وأصرت على موقفها، رافضة بكل بساطة التخلي عن حقها في الجلوس على المقعد الذي اختارته. فقام السائق باستدعاء رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليها بتهمة مخالفة القانون. وكان للحادث أثر كبير في تأجيج مشاعر السود ضد الظلم والتمييز العنصري، فقاطع السود حافلات الركاب لمدة سنة كاملة. ورفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في الولايات المتحدة، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوما. وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر موقف روزا باركس، وتغير وجه حركة الكفاح ضد العنصرية على أساس اللون. وفي نهاية عام 1956 صار من حق السود الجلوس في مكان واحد مع البيض وإعطاؤهم نفس الحقوق في جميع القوانين. من هنا غيرت باركس حياة السود في أمريكا بصورة دراماتيكية، ويعتبر تحديها واحدا من أهم الخطوات التي قام بها مواطن أمريكي أسود من أجل الحصول على حقوق متساوية لما يتمتع به الأمريكيون البيض. رغم نجاح الأمريكيين السود في القضاء على العبودية والفصل العنصري إلا أن مجتمعهم مازال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة ومشاكل عديدة بالمعايير الأمريكية. وبعد نصف قرن على خطاب مارتن لوثر كينج التاريخي "عندي حلم " مازالت الظروف المعيشية الصعبة للسود في أمريكا قائمة. صحيح أنه لم يعد يحرم السود من دخول المطاعم ودور السينما المخصصة للبيض، وصحيح أنه أصبح منهم رؤساء مجلس إدارة شركات كبرى وأساتذة جامعيين وصحفيين لامعين، وأصبح منهم وزيرين للخارجية ومستشارة للأمن القومي ورئيسا للجمهورية. من هنا أعتقد بعض المهتمين بالشأن الأمريكي خطأ (منهم كاتب هذا المقال) أن وصول أوباما لعرش البيت الأبيض عن طريق انتخابات حرة صوت فيها لصالحه ما يقرب من 42 مليون أمريكي أبيض أو ما يعادل 72% من أجمالي الأصوات التي حصل عليها تعد دليلا كافيا لما وصل إليه المجتمع الأمريكي في نضج يتجاهل معه لون البشرة وخلفية الشخص، واعتبر البعض أن أمريكا تشهد مرحلة ما بعد العنصرية. إلا أن تكرار حوادث المواجهات بين رجال شرطة بيض في الأغلب الأعم، وبين شباب أسود وما ينتج عنها من أعمال عنف ومواجهات مختلفة سواء كانت الحادثة مقرها مدينة فيرجسون بولاية ميسوري بوسط أمريكا، أو بضاحية ستاتين أيلاند خارج مدينة نيويورك في الشمال الشرقي على سواحل الأطلنطي، أو في شرق مدينة لوس أنجلوس في قلب ولاية كاليفورنيا المطلة على المحيط الهادي، فقط تذكرنا بأن الطريق ما زال طويلا. ويعود طول الطريق لغياب أبسط قواعد "العدالة الاجتماعية" والمتمثلة في كيفية توزيع الدخل وتخصيص الموارد وإتاحة الفرص وسياسة منصفة للعقاب والثواب. يصعب القول إن الأمريكي الأسود قد نال كل الحقوق والفرص المتاحة لنظيره الأبيض، نعم تحسنت ظروف معيشة السود بشكل عام، لكن الفوارق لا تزال قائمة وصارخة. وطبقا لإحصاء عام 2014 بلغ عدد السود 42 مليون نسمة، أو نسبة 13% من إجمالي عدد السكان. وتبقي المشاكل الكبيرة للسود الأمريكيين ممثلة في عدة ظواهر مقلقة من أبرزها الفقر إذ يعيش 24.7 في المائة من السود تحت خط الفقر، وتبلغ هذه النسبة 12.7 في المائة على المستوى القومي الأمريكي. ويقصد بالفقر أمريكيا حصول عائلة مكونة من أربعة أفراد على أقل من 18.4 ألف دولار سنويا. كما يتعرض التلاميذ السود في حالات الإخلال بالنظام لعقوبات أكثر صرامة من نظرائهم البيض، ويجد الكثير من التلاميذ السود أنفسهم في مدارس ضعيفة التجهيز. وتعكس بيانات قطاع الصحة أن معدل عمر الأمريكي الأسود أقل من نظيره الأبيض بـ 6 سنوات. إلا أن الظلم المجتمعي يعبر عن نفسه بصورة أكثر وضوحا من خلال نظام العدالة ونظام المحاكم حيث يتعرض السود أكثر من غيرهم لرقابة الشرطة في الأماكن العامة، كما أن احتمال الحكم عليهم بالإعدام يبلغ أربعة أضعاف احتمال الحكم على البيض في الجرائم المشابهة. ونسبة السود بالسجون الأمريكية تبلغ 43 في المائة رغم أن نسبتهم للسكان بلغ فقط 13 في المائة، ويسجن من الرجال السود مرة واحدة على الأقل في حياتهم. ولا تزال نسب الزواج المختلط نادرة بين السود والبيض وتبلغ فقط 0.06 في المائة. أما في الشق السياسي فبالإضافة للرئيس هناك عضوين سود بمجلس الشيوخ المكون من مائة عضو، وهناك 44 نائب في مجلس النواب المكون من 435 عضوا أو ما نسبته عشرة في المائة. ما شهدناه مؤخرا في بالتيمور وغيرها هو ترجمة دقيقة لما قاله مارتن لوثر كينج، الزعيم التاريخي للسود الأمريكيين من أن "أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين". من هنا يصبح كفاح السود وغيرهم من غير المسموعين عملية مستمرة حتى ولو وصل أمريكي أسود لعرش البيت الأبيض. وليقتدي سود أمريكا وكل المهمشين بما قاله مارتن لوثر كينج من أنه "ليس هنالك شيء اسمه نضال لأجل حق صغير، أو ظرفي أو مؤقت، بل هنالك النضال الدائم لأجل إنسان، خلقه الله حرا وعليه أن يعيش حرا وكريما."