تجاوز هنري كيسنجر التسعين، لكنه لم يسأم تكاليف الحياة السياسية كما قال شاعرنا العربي زهير بن أبي سلمى عندما بلغ الثمانين، وحين يرحل المستر هنري عن عالمنا شأن كل عباد الله فسيبقى شيء في نفسه من الشرق الأوسط وليس من حرف حتّى. لأن الرجل منذ صعود نجمه السياسي كانت هذه المنطقة هي مسرحه المفضل وذلك لسببين: أولهما الوصية الأمريكية التي طالما كررها سلفه إلكسندر هيغ حول مصالح بلاده في الشرق الأوسط، وثانيهما وجود إسرائيل في هذه المنطقة وما يتطلبه استمرارها من رعاية ودأب من أمريكا، التي لا تكف من خلال رؤسائها المتعاقبين عن الإلحاح بأن أمن تل أبيب هو من أمن واشنطن ذاتها. لهذا كان ازدواج المعايير الأمريكية نتيجة حتمية لتلك المقولة التي يجري تجديد صلاحيتها مع كل رئيس وهي يصح للدولة الصهيونية ما لا يصح لغيرها، بدءاً من تحصين جعبتها النووية وليس انتهاء بحروبها العدوانية، وفي كتابه النظام العالمي يحشد خبرات عقود عدة من الرصد النظري والممارسة الميدانية وكأنه يريد لهذا الكتاب أن يكون الخلاصة لعمر سياسي وسيرة ذاتية اقترنت بثوابت عدة على الصعيدين الفكري والعاطفي. وهو إذ يتناول الأنظمة التي سادت في هذا الكوكب بتعاقب درامي يتوقف حيث يشاء وليس حيث يجب أن يتوقف. فثمة رصد أفقي لبعض المراحل في التاريخ مقابل رصد آخر أكثر عمقاً وتحليلاً وهو ما يتعلق بالغرب بدءاً من نظم أوروبا حتى تشكل الإمبراطورية التي ورثت المنجز الأنجلوساكسوني لكن بعد إخضاعه إلى مصفاة كيسنجرية يفرضها الوقف والذاكرة والرّغائب أيضاً. الشرق الأوسط يحظى بنصيب من هذا المجلد خصوصاً بعد ظهور حركات دينية ومتغيرات كان الإسلام من صلبها، فهو يقرأ هذا الحراك من منظور له صلة بعلم الاجتماع السياسي وأحياناً بما يسمى الأنثربولوجيا السياسية. فمثلاً يقرأ الحراكات العربية خلال السنوات الأربع الأخيرة قراءة لا تخلو مما يسمى الإسقاط، أي تطبيق الأفكار المسبقة، ولا يخرج على سياق الاستراتيجية الأمريكية التي كان ذات يوم المايسترو الذي يقودها، وبالعودة إلى مذكراته التي كانت صادمة في بعض الأحيان نجد أن المستر هنري لم يغير مواقفه بقدر ما أضاف إليها قرائن جديدة لتعزيزها. فالرجل بقي رهينة المكونات الأولى لمنهجه في قراءة الوقائع.