في اتجاهات التصعيد، يلجأ السيد حسن نصر الله إلى «المظلوميّة» سلاحاً للحشد والتعبئة. تمرّ هذه الكلمة في خطاباته مرور المقيم المتربّع لا مرور العابر الموقّت. صارت جزءاً من معركته في كل مكان و«ريموت كونترول» يحدّد القناة التي يريد لشباب «حزب الله» أن يسبحوا فيها أو يغرقوا... لا فرق. ... و«المظلوميّة» في أيّ مكان في الدنيا كان لها وقع السحر الوجداني قبل أن تبتذلها أدبيات الحزب وتعرّيها من أي مضمون فعلي. حتى وصل الأمر بالسيد نصر الله إلى اعتبار أحد الذين قُتلوا برصاص السفارة الإيرانية في بيروت خلال احتجاج على تَدخُّل «حزب الله» في سورية أنه «شهيد مظلوم». بمعنى آخر، فإن مَن مات من «شيعة الحزب» وهو يقاتل أهله في سورية دفاعاً عن بشار هو شهيد مظلوم... ومَن يمت من «شيعة اللاحزب» برصاص مَن يدافع عن بشار فهو أيضاً شهيد مظلوم. كما في التجارب العالمية المثيرة للشجون، يغوص السيد حسن في التاريخ مازجاً بين الصدى المحرّك للحزن والتعاطف من جهة، وبين ما ينتقيه من أحداث يوجّهها بحسب اتجاه الرياح السياسية من جهة ثانية. فإذا كان التوافق مطلوباً مثلاً لاستقطاب أو تحييد فئة سياسية بلبوس طائفي أو ديني حتى لو لم يكن مسلماً، يستحضر عوامل الالتقاء من قصص الماضي ويرفع «الوحدة» إلى مصاف الأولوية منتقياً كلاماً عابراً كغطاء شرعي لهذا التوافق، بل يصف الطرف الآخر المتحالف معه بأنه عاش مظلومية تاريخية وأن المظلوم ينتصر للمظلوم في العقيدة والسلوك. وإذا كان الصِدام مطلوباً يستحضر عوامل الفراق من قصص الماضي ويرفع «الثأر» إلى مصاف الأولوية منتقياً كلاماً عابراً كغطاء شرعي لهذا التصادم بل يصف الطرف الآخر المتصادم معه، مسلماً كان أم غير مسلم، بأنه «حفيد الظالم» وأن المظلوم... هيهات منه الذلة. والتاريخ الإسلامي حقيقة «جسمه لبيس» رغم الاجتماع العام على بعض محطاته، إذ يمكن لأيّ أزمة فيه، وخصوصاً في آخر مراحل الخلفاء الراشدين وما بعدها، أن تُقرأ من زوايا مختلفة تماماً استناداً إلى تَعدُّد الرواة وطريقة عرضهم وأهواء المدوّنين. فبعض الناقلين كان طرفاً في الأزمة، وبعضهم انحاز لطرف، وكثيرون اعتمدوا السمَع والتواتر، ولذلك ليس صعباً إيجاد «وقائع معلّبة جاهزة» وأخرى «تحت الطلب» وثالثة «تحضير سريع» لتغذية عقول المغسولة عقولهم بـ «المظلومية» المناسِبة للمعركة المناسِبة... وهذا الانتقاء يجعل مثلاً الانتصار لـ «مظلومية السيدة زينب» عنواناً لمضمونٍ اسمه الانتصار لبشار الأسد، وهذا الانتقاء نفسه هو الذي يجعل الحزب إن خُيّر بين الدفاع عن مقام أو بقاء بشار في السلطة يختار بقاء بشار، لأن الحليف الهادم للمدن على رؤوس مَن فيها «يعيد بناء المقامات إن تهدّمت أو تصدعت». في بعض أدبيات التعبئة المذهبية، يستحضر أصحابها مواقف رموز وشخصيات من آل البيت وأنصارهم من مجتهدين ومفكرين جنحوا دائماً إلى فتح صفحات جديدة تدعم استقرار الدولة والمجتمع لأن المستقبل هاجسهم وليس الماضي، ويعتبر أصحاب التعبئة هذا الجنوح نوعاً من «مظلومية» فرضتها ظروف الحكم وإرهاب الحاكم وصارت خياراً شبه مسلّم به مع الزمن على قاعدة «أن المؤمن مبتلى والجنة على قدر المشقة»، ويرون أن الأوان آن للثورة على هذا الشعور ذاتياً ثم الثورة على الغير ثأراً لزمن الظلم أو تكريس واقع جديد يجمع «المظلومين» على أهداف واحدة تستلهم التاريخ شكلاً والسياسة جوهراً... والجوهر هنا اسمه المشروع الإيراني تحديداً. في هذا الإطار، يصبح الحوثي «مظلوماً» ولا بأس من أن نظلم بلداً كاملاً اسمه لبنان من أجل الانتصار له، ويصبح بشار مظلوماً ولا بأس من أن نحرق بلداً كاملاً من أجل الانتصار لمجازره. بل في فترة من الفترات تصبح «القاعدة» في العراق مظلومة ولا بأس من دعمها من أجل الانتصار لتدمير المشروع الأميركي، ثم تنقلب القاعدة فتصبح ظالمة مع الوليد الجديد «داعش» ولا بد من التصدي لها نصرةً للمظلومين... وربما اشتعلت الخلافات مستقبلاً بين إيران وباكستان وحصلت تفجيرات متبادلة لمساجد وشاهدنا تعبئة جديدة من لبنان نصرةً لـ «المظلومين» في باكستان. الانتصار للمظلومية يا سيد حسن مرتبط بنصرة الحقّ كما هو لا كما تريده إيران، ومرهون بالعدل والتسامح والرقي والاستقرار والحكمة ومصلحة الأمة ووحدة المجتمع والانفتاح الإنساني. والمظلومية يا سيد حسن لا تعني اختصار العالم إلى فسطاطين كما فعل أسامة بن لادن، وأن يعتبر طرفا أنه «الوكيل» المكلف إصلاح التاريخ وتغيير الحاضر وبناء المستقبل كما يريد. والمظلومية يا سيد حسن لا تعني أن نأخذ شاباً صغيراً من حضن أمه ومن مقاعد دراسته ومن بساتين قريته إلى القتال نصرةً لبشار في القصير والقلمون وريف دمشق... ثم نعيده إلى أمه بكفن وعلم وعبارة «الشهيد المظلوم» على شاهد قبره. ... ربما كانت شواهد قبور قرانا شاهداً رئيسياً في محكمة التاريخ على الفصل بين الظالم والمظلوم.