لا نعرف أحيانا من أين يجيء التاريخ إلينا.. من ذاكرة لا تقول إلا ما ترى؟ أم من خيال مغرور على واقعه؟ أم حتى من مشيئة قارئه؟. "تايتنك" تلك السفينة الأسطورية التي كانت معجزة عصرها على مستوى معايير السلامة، ولدت في زمن البحر وذلك في عام 1912م وأبحرت أول مرة إلى نيويورك فاصطدمت بجبل جليدي في طريقها وغرقت خلال أقل من ثلاث ساعات في مياه الأطلنطي المتجمدة مع فجر 15 أبريل 1912. كان على متن الباخرة 2,223 راكبا، نجا منهم 706 أشخاص فيما لقي 1,517 حتفهم غرقا، هكذا نقل التاريخ الخبر إلينا، أي أنه حادث عابر في حياة البشر على الأرض، تلك الحياة المحفوفة بالكوارث والنهايات الحتمية آخر الأمر. أولئك الغرقى لم يكن لهم حظ من التاريخ لولا خيال روائي وفتنة صورة ودهشة مخرج فقد نُبشت تلك السفينة من أعماق المحيط ومن قبر التاريخ معا ليعاد إحياؤها مرة جديدة عبر فيلم سينمائي كتبه وأخرجه وشارك بإنتاجه " جيمس كاميرون" وشغف به العالم منذ عرضه أول مرّة في عام 1997م ووصلت عوائده عالمياً إلى 1.8 مليار دولار أمريكي في عام 1998، ورشح لأربع عشرة جائزة أوسكار ولا زال جاذبا ومشوّقا حتى وأنت تشاهده للمرة العاشرة ربما؛ لكنّ " تايتنك" الفيلم لم يكتفِ بشغف الاهتمام والمتابعة والإعجاب بكل العاملين فيه والقائمين عليه، ولا بعوائده المالية وجوائزه الكثيرة بل إنه كما يبدو طمع حتى بالتاريخ فلم تعد "تايتنك" السفينة اليوم في مذكّرات الملاحة البحرية وكوارثها ومنجزاتها وأحلامها وخيباتها وأساطيرها، بل في ذاكرة بصرية لا ترى في تايتنك إلا عاشقين ثالثهما اللحظات الشهيّة والنهايات الخالدة، صورتهما جناحان من ريح، يقيمان في سيارة خضراء مظلّلةٍ بالضباب، يتقاسمان الدفء والبقاء فيموت أحدهما آخر البرد، هذه القصة الأسطورية العاشقة استطاعت أن تختزل تاريخ تايتينك فيها على الرغم من أنها في ذمة الحدث لم تكن -على افتراض مصداقيتها- إلا حكاية غريق واحد من بين أكثر من 1500 غريق، وحتما لكل واحد منهم حكايته وذكرياته وتاريخه لكنه مات غريقا مجهولا كما قدّر له الفن الذي بمقدوره -متى أراد - أن يهب التاريخ من يشاء.