لم تأت وزارة الثقافة إلا لدفع عجلة الثقافة إلى الأمام، لا أن تتراجع بها إلى الخلف، فهي في الأصل تهدف إلى تعزيز الوجود الثقافي وتعطيه صفة رسمية بحيث يكون مخولا لكثير من المثقفين ممارسة أنشطتهم بشكل رسمي ويبدو أن من هنا بدأ خلل الثقافة، فحينما تحولت إلى وزارة بدأ التحول من الاستقلالية إلى العمل الإداري البحت، إضافة إلى أن غالبية الذين مسكوا إدارتها كانوا من خلفية الإعلام والتلفزيون قبل أن يتوحدا في وزارة واحدة، الأمر الذي خلق مشكلة عويصة في أزمة الثقافة في السعودية بحيث صار من يدير الثقافة هم من غير المثقفين، والمثقفون الذين انخرطوا في العمل الإداري في الوزارة أصابتهم لوثة الإدارية والبيروقراطية والمحسوبيات، وهي لوثة غالبا ما تكون في إطار المؤسسات الرسمية أكثر من المؤسسات الخاصة أو المؤسسات الأهلية. باستثناء الأربع السنوات الأولى من عمر الوزارة فإنها تتحول تدريجيا إلى وزارة متكلسة بالعمل الإداري أكثر من العمل الثقافي الذي يدفع بأي ثقافة إلى النجاح، ودليل تكلس الوزارة هي أنه بدأ تأثيرها في إدارة الأندية الأدبية بحيث حولتها إلى نسخ ثقافي -إذا صح التعبير- على الرغم من ضخامة المبالغ التي في أرصدة هذه الأندية ماديا. في مقابل ذلك بقيت جمعيات الثقافة والفنون بعيدة عن هذا التكلس الإداري رغم ضعف الدعم المادي ولكنها ما زالت محافظة على نشاطاتها الثقافية التي ابتعدت بها عن الإطار الإداري البيروقراطي لتنجح معظم الجمعيات بدعم قليل في صناعة عمل ثقافي وفني حقيقيين رغم كل ما يشوبها من شوائب. هذا التكلس الإداري في وزارة الثقافة هو ما جعل عددا من المثقفين يقدمون استقالتهم عن رئاسة الأندية الأدبية أو حتى من الوزارة نفسها. كان آخرهم الشاعر أحمد قران الزهراني الذي تسلم كرسي إدارة الأندية الأدبية، وهو كرسي يثبت فشل الوزارة، فحينما يأتي مثقف مثل قران فإنه من الصعب عليه وسط ذلك التكلس الإداري أن يعيد موات مشروع الأندية الأدبية، ولذلك فإن تقديم الاستقالة يكون أمرا متوقعا من مثقف جاء ليعمل، لا أن يكون واحدا من أولئك الذين رضوا أن يكونوا ضمن إطار المحسوبيات الثقافية والإدارية الذين أفسدهم العمل الإداري أكثر من العمل الثقافي. في مبررات استقالته قال أحمد قران في صفحته على الفيسبوك ونشرتها صحيفة الحياة لاحقا: "كانت أسباب طلب إعفائي عديدة من أهمها: تأجيل اعتماد لائحة الأندية الأدبية الجديدة. تأجيل الانتخابات، وبالتالي التمديد لمجالس إدارات الأندية الأدبية الحالية. المناخ العملي لا يتيح لي بأن أقدم ما كنت أسعى لتحقيقه، فقدمت لوزير الثقافة والإعلام طلب إعفائي من الإدارة العامة للأندية الأدبية". هذه المبررات التي ساقها قران تكفي لاستقالة غالبية المثقفين الآخرين الذين يعملون في الوزارة، لكن المسألة ليست بهذا الشكل في عرف بعض إداريي الثقافة، فهم الذين تطالهم تهم اللعب سابقا في نتائج انتخابات الأندية فكيف لبعض من تطالهم التهم أن يكونوا ساعين إلى صلاحها، فالتأجيل كان متوقعا منذ أن تعثرت لائحة الأندية الجديدة التي تجعل الأندية وانتخاباتها مستقلة تماما عن الوزارة ولا يكون للوزارة إلا الدعم العام والإشراف من بعيد على نجاح الانتخابات لا أكثر، وهذا ما لا يمكن أن يكون وجود وزارة، فثقافة الاستقلالية ترفضها الوزارة، بل وترفضها كافة الوزارات الأخرى لأن تعليمات أكبر من وزارة الثقافة هي التي تملي عليها، والاستقلالية الحقيقية للأندية الأدبية ضرب في مشروع مركزية الثقافة ووزارتها بوصفها وزارة تنفيذية ومن ثم يمكن أن يكون مشروعا ناجحا يتمدد إلى باقي الوزارات، وهذا ما لا يُراد له أن يكون. سبق أن طرحت هنا مقالا حول ضرورة استقلالية الثقافة، فكتبت ما نصه: "بعد إنشاء وزارة تنفيذية تختص بالثقافة فإن من المهم في الدولة الحديثة أن تضع هذه المؤسسة في بالها مفهوم حقلها الخاص الذي تشتغل عليه، حتى وإن تقاطع معها غيرها في بعض جوانبها الخاصة بها كالحقل التعليمي والأكاديمي مثلا إلا أنه تبقى هي الممثل الأهم في تشكيل حقلها الخاص.. لا أن مفهوم استقلالية الحقل الثقافي يبقى غائبا عن ممثلي هذه الوزارة الأمر الذي يعيق كثيرا من تطورها وسيرورتها التاريخية في المجتمع السعودي"، ولكون الوزارة لم تستطع الاستقلالية فذلك بسبب أنها وزارة تنفيذية إضافة إلى الصراع -الذي يتحدث عنه عالم الاجتماع بيار بوردو- حول مسألة الأجيال المتعاقبة، حيث إن الصراع يدور بين الجيل الحديث والجيل القديم في نفس الحقل، إضافة إلى كونه يصارع في استقلاليته عن الحقول الأخرى. والصراع بين الأجيال حاصل في وزارة الثقافة، حيث تكلس الإداريين الذين يقفون موقفا رافضا من الجيل الثقافي الجديد الذي يريد أن يخطو خطوات لا تناسب الجيل السابق في الوزارة وما زالوا في أروقة الوزارة. هل من المعقول مثلا أن يتغير أربعة وزراء لوزارة الثقافة ومع ذلك ما زال كثير من الأسماء داخل الوزارة من وكلاء للوزارة أو مدراء للأقسام هم أنفسهم، أو غالبيتهم، ما يزالون في كراسيهم، وبعضهم ثبت فشله في إدارة الثقافة، ومع ذلك يتحول من قسم إلى قسم أو من وكالة إلى أخرى داخل أروقة الوزارة نفسها، الأمر الذي يجعل العملية الإدارية في وزارة الثقافة أمرا مستحيل الإصلاح. إن فشل الوزارة في إدارة الثقافة يتضح من أقل المؤسسات الثقافية فيها، وهو فشلها في إدارة ملف الأندية الأدبية، فمن خلال إدارتها لهذا الملف تضع الوزارة نفسها في جانب الانتصار للبيروقراطية أكثر من انتصارها للجانب الثقافي، ولذلك فإن وجودها كوزارة يصبح لا قيمة له على الإطلاق، إلا في إضعاف الثقافة السعودية، ولا أتصور أن هذا هو الهدف من إنشائها قبل عدة سنوات.