الأرجح أن مساراً «جسديّاً» للإنترنت يرتسم بتؤدة بين استمرار صعود ظاهرة مايلي سايرس المكرّسة رمزاً للتمرّد جنسيّاً لدى الأجيال الشابة، وهيمنة انكشاف الجسد بالسراويل الفضفاضة والتنانير المفتوحة على ميول الموضة المعاصرة، وفق ما كرّسه أخيراً تصريح للأميرة كارولين دو موناكو في مهرجان فرنسي للموضة قبل أيام قليلة. وفي أواخر العام المنصرم، أعطت التقنية الرقمية الأكثر تطوّراً (وهي «حوسبة السحاب» Cloud Computing)، دليلاً آخر على المسار «الجسدي» للشبكات، عبر سلسلة من صور الـ «سيلفي» الحميمة لمجموعة من الرموز التي ينشد إليها جمهور الشبكة، خصوصاً الممثلات والمغنّيات وعارضات الأزياء وغيرهن. لا أقل من القول إن انكشاف أجساد تلك المجموعة المتألقة في عيون الشباب المعاصر، وضع الإنترنت في وضع «عري» كامل، بمعنى سقوط ورقة توت الادعاءات الزاعقة عن قوة تقنيّة «حوسبة السحاب» وقدرتها على حماية الحياة الحميمة للأفراد وأجسادهم. واستباقاً للنقاش، الأرجح أن التقنية لا تستطيع حماية الأجساد وعريها، لأسباب متنوّعة ربما يكون أبرزها سبباً غالباً ما يجري تجاهل الاعتراف به صراحة: التغيير الجذري في مفهوم «الحميم» عند الأجيال المعاصرة، ووجود توق معلن الى تفلّت الأجساد صوب إشهار العري بوصفه ممارسة لحق الأفراد في السيطرة على أجسادهم. واستطراداً، يجدر التذكير مجدداً ومجدّداً، بأن الإنترنت هي تقنيّة معاصرة، وأن مساراتها ومصائرها تتحدّد عبر تداخلها مع الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات التي تتفاعل مع تلك التقنيّة. انكشاف الشبكات في مجموعة صور الـ «سيلفي» المشار إليها أعلاه، انكشفت مجموعة من صور جسدية حميمية على الإنترنت، لنخبة من الإناث اللواتي يحتللن مساحات واسعة في مخيلات الأجيال الشابة. تعطي الممثلة المتألقة جنيفر لورانس نموذجاً عن أجساد العري الشبكي وقدرتها على «كشف» الإنترنت، بل رسم مصير تلك الشبكة، إذ تألّقت لورانس عبر سلسلة أفلام «ألعاب الجوع» («هانغر غايمز» Hunger Games) التي تحوّلت بسرعة لعبة إلكترونيّة، إضافة إلى أنها مشغولة أصلاً على طريقة الألعاب الإلكترونيّة بمعطياتها كافة. ويشير ذلك إلى مدى تشابك لورانس مع المعطى الرقمي والثقافة البصرية المعاصرة. والأهم، أن لورانس وثقت بالوعود الزاهية ذات النبرة العالية عن تقنية «حوسبة السحاب» وقدرتها على حماية ما تحتويه من بيانات، وهي وعود انهمرت سيولها خلال السنوات الأخيرة على ألسنة كبريات شركات المعلوماتية والإنترنت. ومع انكشاف جسد لورانس، انكشف زيف تلك الوعود كافة أيضاً. وهناك بعد فائق الأهمية، يتعلّق بطريقة التعامل مع تلك الصور والأشرطة العارية، إذ لم يجر التعامل معها وفق منطق الفضيحة وتشعبّاتها وكليشياتها. يكفي القول إن تلك الصور الحميمة للورانس، تحوّلت لوحات بالحجم الفعلي لصاحبتها، في معرض نيويوركي جرى بعد تسرّب الصور بأيام قليلة، وحمل شعاراً معبّراً تماماً عن العلاقة القلقة مع انكشافات الإنترنت هو: «فلنَخْشَ غوغل». وعندما تسير صور الأجساد المكشوفة إلى العلاقة بين شبيبة الغرب والشبكة إلى الخوف المكشوف، فذلك يرسم بعداً مقلقاً وجديداً في مسار الإنترنت. وحينها، تضمّن المعرض عينه صوراً بحجم الجسد الفعلي لمجموعة نخبة المتألقات حاضراً: كيم كارديشيان وريهانا وإيفا لونغوريا وكايت آبتون وسيلينا غوميز وماري وينستد وغيرهن، وكلهن كُشِفَت صورهن الحميمة على الإنترنت، ما برهن عن سقوط ادّعاءات الآمان على «سحب» الإنترنت، إذ كانت صور تلك النخبة محفوظة على سحابة «آي كلاود» التي تديرها شركة «آبل»، هي صانعة أدوات باتت نسيجاً أساسيّاً في الحياة المعاصرة، كـ «آي فون» و «آي باد»! في المقابل، يصعب إغفال أن تلك السلسلة من الانكشافات، طاولت أجساد النساء، بالأحرى أنها اعتبرت «انكشافاً» لأنها كانت لأجساد نسويّة. لا مفر من القول إن صراع النسوية المعاصرة مع الهيمنة الذكورية، لم ينتهِ... ليس بعد. ما زال التمييز ضد الجسد النسوي مستمراً، وما زال المسار طويلاً لتتوصّل المرأة إلى الحقوق الكاملة في جسدها. ذائقة متبدّلة تعطي الفنانة مايلي سايرس، وهي كذلك عانت أخيراً من تسرّب صور عارية لها عبر «سُحُب الإنترنت»، نموذجاً عن ذائقة معاصرة في العري، إذ عملت سايرس على تحطيم صورة الصبية المطيعة المهذبة والمنخرطة كليّاً في النسق الأخلاقي السائد، التي أدّتها عبر شخصية «هانا مونتانا» في أفلام «ديزني» للأطفال. وعندما أدت أغنية «لا نستطيع التوقّف» We Can’t Stop، بجسد شبه عارٍ كليّاً، ثار كثر من النقّاد الأميركيين ضد عريها، بل ذهبت مجلة «تايم» الأميركية إلى اعتبار أنها لم تفهم معنى الجسد في موسيقى البوب، وأنها حطّمت إرث مادونا في ذلك الشأن. بقول آخر، بدا عري سايرس صادماً للثقافة الأميركية السائدة حاضراً، وهي شديدة التقدّم إنسانيّاً، ولا مجال لمقارنتها مع ثقافة متكلّسة كتلك السائدة عربيّاً. وسرعان ما ثبت أن من انتقدوا سايرس لم يلتقطوا معنى التغيير الضخم الحاصل في المفاهيم المرتبطة بالجسد المعاصر، خصوصاً النسوي. وكرّست سايرس نجمة للشباب الأميركي والغربي المعاصر، بل نالت جوائز ما زالت تنهمر عليها لتعبر عن أن الثقافة المعاصرة أحنت رأسها، بتفاعل حضاري قوّي أيضاً، أمام التبدّل في مفاهيم الجسد لدى الشبيبة المعاصرة، خصوصاً عبر التفاعل مع الإنترنت. وطري في الذاكرة أيضاً تلك الجلبة الهائلة التي أثارها فيلم «حياة أديل/ الأزرق أقوى الألوان» للمخرج الفرنسي - التونسي عبد اللطيف كشيش، عندما نال جائزة مهرجان «كان» للسينما في عام 2013، على رغم أن أفلام المثلية الذكوريّة كرّست نفسها، عبر مسار شائك وطويل أيضاً، منذ سنوات ليست قليلة، ربما منذ فيلم «توتسي» (للمتألق داستن هوفمان) في عام 1982، أو ربما «بعد ظهيرة كلبيّ» (للمتألق أيضاً آل باتشينو) في 1975.