نهتم بخاتمي والمرحلة الخاتمية لأنها تعكس ملامح معركة مركزية بين اتجاهين سياسيين مُتابينين: اتجاه إيديولوجي قمعي متزمت، ذو طابع أممي، وبالتالي له أحلامه الإمبراطورية التي يسعى لتحقيقها ولو على حساب الشعب الإيراني. واتجاه مدني مؤمن بالحريات إلى حد كبير، ومرتبط بمصالح الناس المباشرة، ومن ثم فهو يحاول أن ينأى عن الأحلام الطوباوية والشعارات الفارغة التي تستهلك مقدرات إيران، مفضلاً عليها الاهتمام بالداخل الإيراني؛ لأنه هو مناط المسؤولية والتكليف، والمعيار الحقيقي للنجاح أو الفشل. هذا الاتجاه الثاني هو اتجاه الخاتمية (بصرف النظر عن تحولاتها الظرفية، وتفاصيل خياراتها)، في مقابل الاتجاه الأول الذي تمثله الخامنئية. وإذا كان من المفروغ منه أن إيران لن تكون سوى إيران؛ إذ هي نتاج التاريخ والجغرافيا، فإن بإمكان إيران أن تكون إيران الإصلاح والانفتاح الخاتمي المتصالحة مع شعبها، ومع جيرانها، ومع العالم أجمع، وليست إيران الخامنئي ونجاد والحرس الثوري، هذه النسخة المتخاصمة مع معظم الإيرانيين، ومع كل الجيران، ومع العالم حضارة وأنظمة ومؤسسات دولية. لقد كان الهدف المحوري الذي من أجله التفّت معظم قُوى الإصلاح حول خاتمي، يتمحور حول قضية مركزية، هي: تحجيم نفوذ رجال الدين؛ بتحجيم صلاحيات المرشد/ الولي الفقيه، تلك الصلاحيات المطلقة التي لا تعني إطلاقيتها إلا إطلاقية هيمنة رجال الدين لقد كان الهدف المحوري الذي من أجله التفّت معظم قُوى الإصلاح حول خاتمي، يتمحور حول قضية مركزية، هي: تحجيم نفوذ رجال الدين؛ بتحجيم صلاحيات المرشد/ الولي الفقيه، تلك الصلاحيات المطلقة التي لا تعني إطلاقيتها إلا إطلاقية هيمنة رجال الدين. "وقد أدرك الرئيس خاتمي بعد تجربة السنوات الأولى من ولايته استحالة تحقيق هذا الهدف، وبات واعياً بالاضطراب الذي سيؤدي إليه؛ فنأى بنفسه عن تلك القوى الإصلاحية ذات النفس الليبرالي، مؤكداً على موقع الولي الفقيه في النظام والدستور"(الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي، ص198). وهذا يعني أن التيار الإصلاحي بقيادة خاتمي هُزم هزيمة حقيقية – ولو مرحلياً -؛ إذ هُزم في قيادته، تلك القيادة التي انتهت بالتسليم لأعدائها المتعصبين، ولو في صورة التسليم بالأمر الواقع!. لم يكن من السهل تجاهل أن الصراع السياسي بين خاتمي وأعوانه من جهة، وبين المحافظين من جهة أخرى، تحوّل إلى صراع وجود؛ فإما هو أو هم. "المحافظون ليس أمامهم إلا أن يدفعوه للاستقالة بجعل حياته السياسية جحيماً يوماً بعد يوم"(مصاحف وسيوف، رياض الريس،ص 26). لم يستطع المحافظون الممسكون بمفاصل القوى الحقيقية تحمّل مسيرته الإصلاحية؛ رغم محدوديتها، وقد حاربوه على كل الجبهات، وبكل الوسائل. كانت مواجهة مكشوفة منذ بداية استلامه منصب الرئاسة، وتطورت المواجهة مع الأيام، وخاصة بعد السنوات الثلاث الأولى، واستمرت المواجهة إلى أن أدت إلى سلسلة من أعمال عنف واسعة، كادت أن تتطور إلى ما يشبه الحرب الأهلية الموجّهة للمفكرين والمثقفين الإصلاحيين. ولعل أشهر وقائعها: 1 قتل محمد جعفر بويندة خنقاً 1998، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان؟ 2 الاعتداء بالضرب على كبار مساعدي خاتمي خلال صىلاة الجمعة. 3 قتل مجيد شريفي، وهو كاتب تنويري. 4 قتل محمد مختاري خنقاً، وهو كاتب وشاعر 1998. 5 داريوش فوروهار وزوجته قتلا 1998 طعناً. 6 فاطمة إسلامي كاتبة قتلت خنقاً.. إلخ العمليات المشابهة. وقد استمرت هذه العمليات العنفية حتى أقفرت مقاهي طهران من الكتاب والمثقفين. ولقد كان الجميع على علم بمصدرها، فالقوى الأمنية والحرس الثوري، وكتائب المتطوعين التي تصدر – بشكل أو بآخر – عن توجّهات وتوجِيهات المحافظين، كانت تُعلن – بكل صراحة - عن وجهها الراديكالي في المواجهة. وقد تزايدت هذه العمليات بشكل ملحوظ، ولفتت انتباه مَن في الداخل والخارج على حد سواء؛ حتى سماها خاتمي: موجة جرائم القتل. (مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص 114/115). وقد لاحظ علي رضا ساسي أن هذا العنف - الصادر عن متزمتين متطرفين - يعمل بلا حسيب ولا رقيب، مما يؤكد أنه ليس عنفاً عرضياً، بل هو عنف مخطط له، يتم بتوجيه من السلطات العليا، أو على الأقل بتواطؤ منها. يقول: "منذ أربعة أعوام وأنا أُراقب مجموعات الضغط تهاجم التجمعات وتعتدي على الناس بالضرب. ومن دون أن تتم حالة اعتقال واحدة بعد تلك الأحداث" (مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص117). وإذا كان من الصعب أن يهرب الإنسان بجريمة قتل واحدة، فكيف بكل هذا العبث الذي وصل إلى مستوى الظاهرة؟. لا ريب أن عدم المحاسبة كانت بمثابة الضوء الأخضر للمتطرفين لممارسة مزيد من العمليات الإرهابية، التي استمرت إحداثياتها بوتيرة متصاعدة؛ من أجل ترويع وتركيع قوى الإصلاح المتمردة، تلك القوى التي بدت وكأن سقف مطالبها بات يرتفع كثيراً عما يمكن احتماله، إلى أن وصل النقاش الإصلاحي إلى (عصب النظام) المتمثل في موقع المرشد، وما يتفرع عنه من أذرع سلطوية تنشر الاستبداد الديني، بل والإرهاب. إن التشدد الديني كفيل بإقصاء الجميع؛ حتى حلفاء المتشدد الأقربين سيطالهم الإقصاء. الإصلاحيون الذين يتعرضون للاضطهاد وللنفي والإقصاء في إيران، لم يكونوا أعداء للثورة الإسلامية/ ثورة الخميني، بل كانوا من أنصارها في يوم من الأيام، وربما بعضهم لا يزال من أنصارها؛ حتى وهو يحارب بشراسة قوى الاستبداد الديني الراهن. كثير من الإصلاحيين شاركوا عملياً في مناصرة الثورة، بل وفي تأسيس الجمهورية الخمينوية، ولكنهم – آنذاك – لم يكونوا على وعي تام بطبيعة الفكر الديني المتشدد، ذلك الفكر الذي لا يعي المرء خطورته وعيوبه لحظة اندماجه فيه، ذلك الفكر الذي قد ينجح في إسقاط كيانات الاستبداد، ولكنه يحمل – في الوقت نفسه - استعداداً أقوى وأشمل لممارسة الاستبداد باسم الله. لم يكن الإصلاحيون الذين أسهموا في الثورة، وشاركوا في التأسيس للجمهورية الثيوقراطية يتوقعون أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه الآن. إنهم لا يكرهون الجمهورية التي بنوها مخاطرين بأرواحهم من أجلها، ولكن يعزّ عليهم أن تنتهي تضحياتهم الكبرى إلى مكتسبات في أرصدة الاستبداد المجيّرة لحسابات المستبدين. لا أحد يستطيع اتهام رموز الإصلاح بأنهم معادون للثورة، ولا لإسلاميتها، فرمز الإصلاح الأكبر/ خاتمي كان من أنصارها، ومير موسوي وكروبي كذلك، والمفكر النابه/ عبدالكريم شروس...إلخ، كل هؤلاء لم يتكبدوا عناء الإصلاح، بل مخاطر الإصلاح التي تجعلهم على شفا الاغتيال أو الاعتقال؛ إلا بعد أن اتضح لهم – بجلاء - أن الثيوقراطية الدينية باتت تنغلق أكثر فأكثر، وتتسلط أكثر فأكثر، وتقود في النهاية إلى انحطاط وتخلف وفقر وبؤس عام يلتهم الشريحة الأكبر من مواطني إيران. معظم المفكرين والقياديين من رجال الدين الذين شاركوا في الثورة، وساندوا إقامة الجمهورية الإسلامية، كانوا يطمحون إلى صناعة مجتمع تحرري متطور، ودولة متطورة تصون قيم الحرية والعدالة، ولكن صدمتهم النتائج التي لم تخطر لهم على بال. بعضهم أفاق واستبصر خطر الاستبداد منذ البداية، كآية الله طالقاني، الذي يقول عنه وليد عبدالناصر:" قبل وفاته المفاجئة في سبتمبر عام 1979 بعدة أيام حذر طالقاني الشعب الإيراني من الاستبداد المتخفي تحت عباءة الإسلام، وأكد أن الإسلام لا يقر منع الناس من ممارسة حقوق النقد والاعتراض التي تعبر عن آلامهم"... "ونصح طالقاني رجال الدين بترك المناصب التنفيذية والعودة إلى المساجد لإرشاد وتوجيه الأمة"(إيران، دراسة عن الثورة والدولة، ص 38). لكن، أياً كانت مبررات هذه الدعوة، فهي كانت بمثابة الانقلاب على مسار الهيمنة الذي كان رجال الدين يشتغلون عليه، ويخاطرون بأرواحهم من أجله، خاصة وأنها خرجت من رجل دين له قدم صدق في الثورة، إذ كان هو الثائر في الداخل، مثلما كان الخميني هو الثائر في الخارج. فلا أحد يستطيع المزايدة عليه. ومن هنا كانت خطورته، ومن هنا (كان لا بد أن ينتهي ؟!)؛ لتستمر المسيرة الاستبدادية باسم الله، وعلى يد رجال الله!. إذن، بعض رجال الدين المخلصين، وبعض المفكرين النابهين، أفاقوا، وتوجّسوا خطر الاستبداد الذي كان يتشكل في المراحل الأولى من الثورة، بينما بعضهم الآخر لم يفق إلا مؤخراً، وتحديداً بعد أن رأى كيف حارب المحافظون خاتمي بالطرق المشروعة وغير المشروعة؛ على الرغم من أن إصلاحه كان يمشي على استحياء في ساحة الاستبداد. يقول فرهنك رجائي عن المفكر القدير/ عبدالكريم شروس - الذي كان متحمساً للثورة وللخميني، ولكنه تنبّه لخطر الاستبداد الديني في وقت مبكر نسبياً-: "ومع ذلك فقد آثر سروش أن يُغيّر مواقفه بعد أن أخفق النظام الإسلامي في خلق مجتمع حر أخلاقي، فأقام بدلاً من ذلك دكتاتورية دينية" (الإسلاموية والحداثة، فرهنك رجائي، ص345). لاشك أن سروش أدرك أن المشكلة كامنة في صلب الوعي الديني السلفي التقليدي، ولهذا أخذ على نفسه نقد هذا الوعي بتفكيك مكوناته التراثية، دون أن يأخذ على عاتقه - بصورة أساسية - مواجهة سلوكيات النظام الاستبدادي المتخلف، تلك السلوكيات التي ليست إلا نتاج هذا الوعي الديني المتخلف الذي يحمل عبء ترويجه وترسيخه التقليديون من رجال الدين. أيضا، المفكر الإيراني/ محمد مجتهد شبستري، الذي يمارس الآن نقداً مفعماً بالحيوية للانغلاقية الدينية، كان يدرك مآلات الثورة، وخاصة عندما رأى الدولة/ الجمهورية تتأسس على رؤية ثيوقراطية تفتح كل الأبواب لامتزاج مهام الدولة بمهام الدين. وقد كان من الواضح أن هذا التداخل/ الامتزاج لا بد وأن يقود إلى أن تصبح رؤى المتزمتين هي قوانين الدولة. يقول د. توفيق السيف - راصداً جدلية هذا المفكر مع واقعه -: "شبستري يجادل أن تدخل الدولة في الشأن الديني يقود إلى الاستبداد الديني، وخلال العقد الأول بعد الثورة كان هذا التدخل سبباً في نقص الحقوق المدنية للشعب، وقهر الشباب والنساء، وعزل النخبة المفكرة والمثقفين" (حدود الديموقراطية الدينية، توفيق السيف، ص244). وهذا بالضبط ما حدث، وما لا يزال يحدث إلى الآن، بل زاد الاستبداد رسوخاً بمقدار ما تجذرت وترسخت السلطة المطلقة لرجال الدين المتزمتين.