تاريخ العرب الحديث هو تاريخ فرص ضائعة وفشل متكرر ننكره أو نبرره أو نسميه نجاحا، فلا أهداف محددة ولا تخطيط ولا توثيق ولا تقييم ولا محاسبة، ولا وضوح في المسؤوليات والصلاحيات ولا في معايير التقويم، بل ارتجال وتمن وتواكل ومكابرة وترقيع. لدينا خصومة مع الإتقان والمثابرة والنفس الطويل، نسترخي ونغرق في النشوة عند أول إنجاز أو ننقض غزلنا، لا نبني بل لا نحافظ على مكاسبنا، المهم أن نثبت أنه لم يكن بالإمكان أحسن مما كان، فلا غرابة أن نتعاقد مع الجمود والتخلف والفوضى والضحالة. صنع العرب فرصتين عظيمتين للإقلاع باتجاه التحرر والنهوض: موجات الاستقلال وموجات الربيع العربي، ضاعتا بالطريقة نفسها: هبة شعبية تحقق هدفا مرحليا يسترخي بعده الشعب وينتشي ثم يحبط وتنصرف النخب إلى السلطة والغنائم تتنازعها أو تتقاسمها، وترتهن للخارج، ويتعامل الجميع مع موسم الحرث على أنه موسم حصاد فتضيع الفرصة، مما يؤكد عمق الأزمة وتجذرها في العقول والنفوس، وهي بالأساس أزمة قيادة وأزمة نخبة لهفتها على السلطة تجعلها قابلة للتضليل والتوظيف والتفريط في أي شيء، فجعلت بلدانها محكومة من الخارج بالوكالة أو ساحة صراع بالوكالة. " اختلفت السيناريوهات والنتيجة واحدة: ثورات شعبية واعدة ضيعتها نخب نرجسية ضحلة شيمتها خذلان الشعوب، تتناقض أقوالها وأفعالها قبل وبعد أن تشتم رائحة السلطة، فهل هي ثورة حتى الحكم؟ وهل السلطة تغيرها أم تكشفها على حقيقتها؟ " حتى لما تجاوزت الشعوب النخب وأزاحت النظام وجدت القوى الخارجية بدائل عديدة مستعدة للقيام بنفس دور الأنظمة التي سقطت والتي لم تسقط بعد في التحكمبالشعوب وتدجينها، ولتنخرط بوعي أو بدونه في إجهاض الثورة أو تجويفها أو حرفها عن مسارها. اختلفت السيناريوهات والنتيجة واحدة: ثورات شعبية واعدة ضيعتها نخب نرجسية ضحلة شيمتها خذلان الشعوب، تتناقض أقوالها وأفعالها قبل وبعد أن تشتم رائحة السلطة، فهل هي ثورة حتى الحكم؟ وهل السلطة تغيرها أم تكشفها على حقيقتها؟ لا حاجة للتحذير من تجارب الربيع العربي الأخرى، فانحرافها بين، أما في تونس فالثورة ماتت أو قتلت، ماتت بدون ألم رغم نجاح العملية، ماتت بجرعة زائدة من توافق جاء متأخرا ومغشوشا، لقد كان في العسل سم، فالتوافق ليس كله خيرا، وإنما بحسب مع من تتوافق وعلى ماذا، فحتى المؤامرات والخيانات هي نتاج لتوافقات، وسايكس بيكو كانت توافقا وأوسلو كانت توافقا، وبين الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا توافق ثابت على الدعم المطلق لإسرائيل. ما حدث في تونس لم يكن توافقا وطنيا على مشروع وطني بل كان صفقة حزبية لتقاسم السلطة وتطبيع الأوضاع تمت برعاية خارجية لضمان ألا يتغير شيء وقد كان، فلا عدالة اجتماعية أو انتقالية ولا مقاومة للفساد ولا تخفف من التبعية، وكانت الصفقة تتويجا طبيعيا لخيار المراهنة على السلطة وعلى الخارج بدل المراهنة على الشعب وعلى المشروع الوطني، تمت على أساس أن التواجد في السلطة أو حولها ضمانة وغاية تبرر كل وسيلة، وعلى قاعدة بيدي لا بيد عمرو. ومع عدم الرهان على الشعب والتشبث بالسلطة واستبعاد الخيارات الأخرى ضعف الموقف التفاوضي للبعض، فاستدرج مكرها (كما حدث للعرب في عملية السلام)، ثم وجد في هذا المسار راحة شخصية ومصلحة حزبية فغلفه بالمبادئ وبالمصلحة الوطنية ليسهل عليه تجرعه وتجريعه للشعب، خاصة والكل يعلم أن المسار الصحيح محفوف بالمكاره والتضحيات (والحديث هنا ليس عن التهور والصدام)، فالتحرر والإقلاع يتطلبان استنهاض الشعب لدفع الثمن، وقد يواجه الخيار صدودا في الداخل ومقاومة من الخارج، على عكس المسار الحالي الذي تهلل وتروج له الدول الغربية وتشيد به في الليل والنهار. سيناريو تجويف الثورة جرب في اليمن ومصر، ثم أحكم في تونس، حيث الأرضية أقل تعقيدا والطبقة السياسية أطوع وأقدر على التخريج، ورغم أنه فقد الكثير من بريقه بعد الانتخابات الأخيرة فإنه ما زال مرشحا للتعميم كلما اقتضت الحاجة لامتصاص غضب شعب عزم على التغيير والتحرر. بهذا المسار وبهذه الطبقة السياسية لن يتغير شيء في السياسات أي في النظام، وستظل تونس تراوح مكانها، دولة تابعة محكومة من الخارج بالوكالة. وبالمناسبة فإن الجهات التي تروج للاستثناء التونسي هي نفسها التي كانت تروج للاستثناء التونسي في عهد بن علي، ومع ذلك يحتج بالاحتفاء الغربي ومن ثم العالمي (غير المسبوق) على نجاح التجربة التونسية. أما الحجة الأخرى فهي المقارنة بتجارب الربيع العربي الأخرى، يقال إن تونس لم يصبها ما أصاب تلك التجارب، وهذا صحيح، ولكن ما لا يقال هو أن تونس بطبيعة شعبها المسالم والمتجانس وبطبيعة جيشها المتواضع والبعيد عن السياسة عصية عن سيناريوهات اليمن وليبيا وسوريا ومصر، فالشعب التونسي كله تقريبا عربي مسلم سني على المذهب المالكي، ولو وزعت عليه أسلحة تلك الدول لأعادها فورا إلى الثكنات. وتونس راهنت مبكرا على التعليم وتحكمت في عدد سكانها، ومستوى الإدارة والخدمات فيها كان دوما معقولا، والجيش التونسي جاءته السلطة على طبق بعد هروب المخلوع فلم يستلمها، فتونس تحتاج إلى معجزة لتقوم فيها حرب أهلية. " سيناريو تجويف الثورة جرب في اليمن ومصر، ثم أحكم في تونس، حيث الأرضية أقل تعقيدا والطبقة السياسية أطوع وأقدر على التخريج، ورغم أنه فقد الكثير من بريقه بعد الانتخابات الأخيرة فإنه ما زال مرشحا للتعميم كلما اقتضت الحاجة لامتصاص غضب شعب عزم على التغيير والتحرر " ثم إن سيناريو الفوضى ليس فقط مستحيلا، بل أيضا مرفوض دوليا في تونس، وكذلك سيناريو الانقلاب على سلطة متعاونة ومضمونة، ولذلك استهدفت ثورة تونس بالتجويف والاستنزاف على ألا تخرج الأوضاع على السيطرة، وقد كان. أقحم الفرقاء بعد الثورة في صراع عبثي على السلطة في أوضاع هشة أنهكهم وأنهك البلاد، وأحدث بينهم وبين الشعب فجوة ما انفكت تتوسع وأزمة ثقة ما انفكت تتفاقم، وانقسم الشعب وأحبط ويئس من الأهداف التي ثار من أجلها كما يئس الفرقاء من حسم الصراع، فالتقى الجميع على أمر قد قدر، وتهيؤوا لمرحلة "التشطيب" والتسويق، وهو ما تفرغت له الطبقة السياسية. وكان أول الغيث في النصف الثاني من 2013 ثم انهمر في 2014، حيث مرر كل شيء تقريبا تحت غطاء كثيف اسمه التوافق، والتاريخ يعج بالأمثلة التي وقع فيها تمرير الأجندات والحروب والصفقات مغلفة بأنبل الشعارات والمبادئ. تقزم الموضوع من ثورة شعبية لتحقيق تطلعات كبرى إلى توافق حزبي لإنجاح الانتقال الديمقراطي ثم إلى معركة ضد الإرهاب، ومن يجرؤ على أن يعترض على التوافق والديمقراطية؟ وهكذا العرب لا يتغلبون إلا على البسائط كما قال ابن خلدون. القول بنجاح التجربة التونسية يعني التصديق أن ديمقراطية حقيقية يمكن أن تتحقق في دولة عربية في ظل التبعية، ثم تنقذ البلاد من التخلف والتبعية، كما يعني التسليم بأن كل ما دون الحرب الأهلية وانهيار الدولة نجاح، وهذه العقلية مهدت تاريخيا للاستبداد والجمود وكرستهما باسم الأمن والاستقرار، ومثل هذه الديمقراطية قامت في لبنان وباكستان واليمن وبعض دول أوروبا الشرقية منذ عقود دون جدوى. لم يقتصر التسطيح على أهداف الثورة والوعي، بل طال أفكار الأحزاب وأطروحاتها، فتميعت العملية السياسية برمتها وتلاشت الفوارق بين الأحزاب وبرامجها وخطابها، وأصبحت بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ماكينات بلا مشاريع، وأصبح لا معنى للانتخابات ولا فرق بين الانتماء أو التصويت لهذا الحزب أو ذاك، وكما تحولت منظمة التحرير الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة تصريف أعمال في ظل الاحتلال تحولت أحزاب تونس من حركات تغيير إلى أحزاب تطبيع للأوضاع، وإلى جزء من الواقع الذي قامت لتغييره. لم تخلُ الثورة التونسية من إنجازات تحققت في الأشهر الأولى، كسر الشعب حاجز الخوف فانتزع حرية التعبير، ولو استمر بن علي في الحكم لما أمكن له أن يعيد تكميم الأفواه، وما تلا ذلك للنسيان: عبث وثرثرة وجري في المكان. جملة من الأسباب تجعل التجربة التونسية ملتبسة ومحيرة لمن لم يلم بكل جوانبها: أولا: التناقض بين ظاهرها وباطنها، أما ظاهرها فانتقال ديمقراطي ناجح جنب البلاد سيناريوهات قاتمة بفضل طبقة سياسية حكيمة وزاهدة ضحت بمصالحها الشخصية والحزبية وتناست خلافاتها من أجل المصلحة الوطنية والديمقراطية، أما الباطن الذي ما انفك يتكشف فهو أن ثورة تونس استهدفت بالتجويف والتمييع لإعادة إنتاج نسخة معدلة من المنظومة القديمة، وأن الطبقة السياسية قامت -بوعي أو بدونه- بالأدوار التي رسمت لها. ثانيا: الفارق المهول بين التغيير الجذري الذي حدث في حياة شريحة صغيرة وبين أوضاع أغلبية الشعب التي لم تتغير، بل لعلها ساءت معيشيا، بين أحلام نخب تحققت وأحلام شعب تحطمت، فأغلب السياسيين كانوا مضطهدين ومهمشين ومغمورين، أوضاعهم المعيشية والسياسية صعبة وبلا أفق، وإذا بالثورة تقذف بهم إلى قمة المجد والشهرة والنفوذ، يتملقهم ويسعى إليهم من كان بالأمس يتجنبهم ويتبرأ منهم. هؤلاء عندما يتحدثون عن التجربة التونسية إنما يتحدثون عن تجربتهم، عن أحلامهم التي تحققت، عن تونس التي يعيشونها، ومن نكد الدنيا أن ترى قامات نضالية منتشية بانتصارات وهمية وتتحدث بلغة خشبية ومنغمسة في أعمال بروتوكولية ومستهلكة في أنشطة روتينية وفولكلورية. ثالثا: الدعاية الغربية غير المسبوقة خاصة بعد أن استوت الطبخة، ووضع القطار على السكة، ولم يبق للتونسيين إلا الاختيار من بين وكلاء معتمدين ليسيروا بالبلاد في المسار المحدد، وأصبحت العملية السياسية أشبه شيء بلبنان، محكومة من الخارج تدار بالصفقات برعاية السفارات، هذه الدعاية الضخمة لم تسحر الشعب الذي رفض أن يكذب ما يراه ليصدق ما يسمعه، خاصة وقد خبر من قبل نفس الدعاية من نفس الجهات لمعجزة بن علي التي لم يرها. " القول بنجاح التجربة التونسية يعني التصديق أن ديمقراطية حقيقية يمكن أن تتحقق في دولة عربية في ظل التبعية، ثم تنقذ البلاد من التخلف والتبعية، كما يعني التسليم بأن كل ما دون الحرب الأهلية وانهيار الدولة نجاح، وهذه العقلية مهدت تاريخيا للاستبداد والجمود وكرستهما باسم الأمن والاستقرار " رابعا: انخراط عدد من الشخصيات التونسية المرموقة من مختلف الاتجاهات والأجيال التي لم تستطع أن تقاوم إغراء السلطة والأضواء، فوظفت وأنفقت ما تملك من مصداقية ورصيد نضالي لتكييف التجربة مع المبادئ ولتسويقها بتصريحات مكثفة ومواءمات متكلفة (وصلت إلى حد التناقض) لم تقنع سوى من أراد أن يقتنع من المريدين والمستفيدين، خاصة الذين ارتبطت معيشتهم وأوضاعهم الاجتماعية بمسايرة التيار واتعظوا من مصير المغضوب عليهم، وأحزاب تدير شؤونها بهذه الطريقة لا ينتظر منها إلا أن تكرس في البلاد المحسوبية والتنافس في التملق بدل الكفاءة. أغلب الذين يسايرون التيار لا يعلمون أو يتجاهلون أن عملية الإعداد لما بعد بن علي وتأهيل البدائل بدأت قبل الثورة بسنوات رغم أن ذلك ما عاد سرا، ويغفلون تبعية تونس التي تكرست بعد الثورة، ومن يغفل هذين العاملين يصبح قابلا للتضليل، وأي حديث في السياسة التونسية يسقط هذين العاملين هو لغو وثرثرة. تميعت الأهداف وغيبت القضايا الجوهرية والمعطيات الحساسة فضاعت البوصلة وانتفت أسس التقويم والمحاسبة وأصبح النجاح مضمونا مقارنة بمن هو أفشل ومقارنةبالماضي، وما يفوت في الإنجازات يعوض بالتصريحات والنشاطات. وعندما يكون المسار خاطئا أو منحرفا لا يكون الوقت جزءا من العلاج، ويصبح الصمت خذلانا، ولا مفر من التصحيح قبل فوات الأوان، ولا يغني عن ذلك لا مضاعفة الجهود ولا حث الخطى. الشعوب العربية مطالبة رغم أزماتها بالتشبث بطموحاتها وأحلامها في تغيير حقيقي، وباستخلاص العبر والدروس من التجارب. المطلوب تغيير جذري يطال العقول والنفوس والعرف والسلوكيات والأخلاق والمعاملات والنظم والقوانين والسياسات، هذا التغيير له طريق واحدة طويلة وشاقة ولكنها معروفة، دور النخب والقيادات الالتحام بالشعب وتحفيزه على السير في هذا الطريق ودفع الثمن والصبر على آلام العلاج. كل الطرق الأخرى سراب تحسبه الشعوب ماء، أو دائرية سرعان ما تعود بها إلى المربع الأول. لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها، الشعوب بحاجة إلى إقلاع وبالتالي بحاجة إلى قيادة قادرة أن تقلع بها، بحاجة لثورة حقيقية لا تهدأ حتى تحقق أهدافها وتفرز نخبا جديدة وتضع البلاد على طريق الإقلاع، لا بد أن تظل البوصلة باتجاه التحرر والنهوض مهما كان الثمن، تلك هي معايير التقويم والنجاح، وكفانا تبريرا للفشل وخداعا لأنفسنا فلسنا أقل من الشعوب التي تحررت ونهضت.