×
محافظة المنطقة الشرقية

بعض من ... (استئناف)

صورة الخبر

القاهرة: محمد فتحي يونس قبيل دقائق من أذان المغرب، وقف سيد وسط أنهار من البشر، بشارع السودان بالجيزة، يجذب ولديه بعنف، وهو شبه عاجز عن إرجاعهما لطريقه، مع صراخ للأم مختلط ببعض البكاء، «إنت بتفتري عليا عشان ماليش حد».. مصممة على الذهاب برفقة ولديها إلى بيت أسرتها.. لكن لحظات واتسع الجمع، وسيد يكظم غيظه، ويكبح جماح توتره وانفعالاته.. ورويدا، رويدا، خفت حدة التراشق بتراجع الزوجة حرصا على عدم إفلات الزمام إلى نقطة اللاعودة، والتقط عبد الفتاح الخيط فصرخ في الجمع لتفريقهم، ثم استضاف الزوجين في محله المخصص لكي الملابس، وأجلسهما على أريكته الأثيرة قبل أن يناولهما كوبين من العصير على وقع أذان العشاء، ثم أقسم عليهما أن يستريحا بلا كلام، وعقب فاصل من مداعبة الطفلين، ومحاولة إرجاع الطمأنينة إلى قلبيهما، توجه بغتة إلى الزوجين متمتما: «معلهش.. البيوت كلها كده».. تراخت انفعالاتهما تدريجيا، ثم تنبه الاثنان إلى أنهما لا يزالان في الشارع، فانطلقا عائدين إلى بيتهما في نوبة أسى خالية من الغضب، عساهما يصلحان ما انكسر. إذا كانت «معلهش» أعادت الحياة إلى قضبانها مع سيد وزوجته، فإنها تصيب عمر البنهاوي، وهو صاحب متجر لبيع الأدوات الصحية بالذعر، فهي في ظنه أداة من أدوات التجاوز والتسيب، يقولها العامل إذا تأخر عن عمله، أو من تخطئ وتريد الغفران بلا مبرر مقنع، ويضيف: «أكره تلك الكلمة بشدة، تؤرقني في عملي الخاص ولا أتسامح مع من يستخدمها أبدا.. كان أبي يوصيني، ويشدد علي بأن ألتزم في مواعيدي.. لأنني لو ذهبت متأخرا سأبدأ كلامي بالاعتذار.. وسأظهر ضعيفا منكسرا، بل ومستهانا به في أحيان كثيرة». وكان يقول «يا بني كل شيء بالاحترام، العمل نفسه احترام، ودي أول عتبة للنجاح». وفي سياق عمر، قديما ألف الكاتب الفرنسي الشهير جان كوكتو كتابا ضخما عن مصر اسمه «معلهش»، وقد عنونه هكذا بحروف لاتينية دون ترجمة، معتبرا أن تلك الكلمة ملمح جوهري في حياة المصريين، وجزء أصيل من ثقافتهم بما يختلط بها من معان اتكالية وسلبية، كما سادت في مصر مقولة شهيرة لسنوات تلخص أزمات المجتمع في ثلاث كلمات موزونة وهي «حشيش.. بقشيش.. معلهش»، والكلمات الثلاث يتم تأويلها بشكل لا يخلو من الطرافة، فالأولى تستنزف الجيوب والعقول والصحة، والثانية ـ وهي كلمة تركية الأصل ـ مدت للتسول جذورا في الثقافة المصرية، وحولت الإكرامية إلى واجب، على السائح أن يدفعه، بينما بقيت «معلهش» لتبرر عدم إتقان العمل، وخلف الوعود، والاستسهال، بل أحيانا تأتي مقرونة بالذلة مثلما تتردد على ألسنة المتسولين في الشوارع، وهم يرجون المارة بالانتظار لسماع شكواهم، أو في المصالح الحكومية المصرية على ألسنة البسطاء وهم يرجون الموظف التحلي ببعض المرونة ليعبروا حواجز الروتين والبيروقراطية العالية بسلام. لكن هناك من تبرأ من مصرية الكلمة، فينفي العقاد أن يكون لها أصل عربي من الأساس، وإذا كانت تعود برأيه للتعبير «ما عليه شيء»، فإن هذا التعبير لم يضبطه أحد على ألسنة القدماء، ولا وجود له في شعر العرب أو حكيهم أو إنتاجهم الأدبي.. فقط ترجمة عربية لتعبيرات صكت بألسنة أوروبية مثل التعبير الإنجليزي «Never Mind». يرفض حسام الشافعي، وهو فنان متخصص في الخزف هجر الكلمة، ويعتز بها كثيرا، ويعتبرها مع غيرها من التعبيرات المصرية الشهيرة مثل «خليها على الله»، «ارمي ورا ضهرك»، «بكرة تفرج»، كروتا سحرية لتمرير الأيام. برأي الشافعي فإن «معلهش» في مرحلة وسط بين انكسار «آسف» وتبجح «أنا حر في تصرفي»، عبرها يعبر المصريون عقبات اليوم، ومناكفات الحياة الزوجية، وهنات التقصير في الواجبات، أو هي مقدمة اعتذارية لطيفة لطرح الرأي، وتحدي الآخرين بصحته، وهنا تظهر: «معلهش إحنا بنتكلم يعني»، التي لازمت الفنان أحمد آدم مع بداية شهرته في مسلسل »سر الأرض»، وذاع انتشارها لتتحول إلى فيلم سينمائي بعنوان «معلهش إحنا بنتبهدل»، لأحمد آدم أيضا، قلد فيه الرئيس الأميركي بوش، وانتقده بشدة. وكما يتوجه المصريون بـ«معلهش» للتأثير على الآخر أو مواساته، فإنهم يصالحون بها أنفسهم أمام ضربات الزمن، وهنا من الممكن أن تتزاوج مع مثل شعبي شائع فتصبح «معلهش يا زهر».. أي كأن زهر الطاولة ليس في صالح من يلعبها اليوم، وهكذا الحياة، وتعني أن الوقت متسع للتغلب على الصعاب، ومتسع أيضا للحزن واللعب، أو تعني أن الضربة من المفترض أن تقويني. قالها الناجون من صخر «الدويقة» الهابط على رؤوس أهل المقطم، ومن تذمروا من قمامة الجيزة فنفثوا غضبهم بـ«معلهش أهي عيشة»، وعلى ألسنة الآباء لأبنائهم الذين فشلوا في دخول كلياتهم المفضلة بعد ارتفاع تنسيق دخول الجامعات. كما قالها بحروف مرتعشة طفل صغير نهره والده لتلكئه في عبور الشارع لدقائق، وقف فيها يشاهد خناقة سيد وزوجته وسط الزحام.