الرياض: بدر الخريف رغم الحضور الذي سجلته المرأة العربية والمسلمة في مختلف المجالات وقيامها على مدى العصور بأدوار سياسية واقتصادية وشرعية وأدبية وتعليمية وطبية تناولتها على استحياء تارة وبتوسع تارة أخرى؛ التراجم الرجالية، فإن حضورهن في عموم مجموعات السير كان قليلا قياسا بكثرة النساء اللائي قمن بأدوار لافتة. بل إن أعدادهن ونسبهن في مجموعات السير بدأت تتناقص. كل هذا جعل أي محاولة لتوصيف وتحليل هذه الإشكالية التاريخية مشوبة بالمخاطر مما أثار فضول الكثير من الباحثين وخصوصا الغربيين لرصد وتدوين قوائم تشتمل على مجموعة التراجم النسائية في حقب التاريخ الإسلامي، في موضوع تمكين المرأة المسلمة والبحث عن دليل على إهمال النساء في هذا الجانب، ومع هذا كله أصبحت الحاجة عند عدد من المؤرخين ومنهم الأميركيون والأوروبيون البحث في هذا الموضوع وصولا إلى هدف إعادة بناء تاريخ النساء لأنهن غير ظاهرات في المراجع التقليدية. الدكتورة روث رودد باحثة أميركية ناقشت أصول وتطور وغاية مجموعة التراجم والسير النسائية الإسلامية، في كتابها «النساء في مجموعات التراجم الإسلامية»، الذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الله العسكر أستاذ التاريخ والمؤلف والباحث السعودي، ونشرته دار «جداول» في بيروت أواخر العام الماضي. وفي قراءته للكتاب اعتبر العسكر أنه وعلى عكس ما وقر في نفوس بعض المؤلفين المسلمين، وصلت الدكتورة روث رودد إلى أن أي عدد من النساء شكلن أهمية تكفي لتسويغ تدوين تراجمهن في مجموعات التراجم الإسلامية القديمة. ومع هذه الأهمية وجدتْ المؤلفة أن المؤلفين المسلمين الأوائل لم يضموا في مؤلفاتهم إلاّ العدد الضئيل من النساء، متجاهلين نسبة عدد النساء إلى عدد السكان الكلي، ومع ذلك ففي كثير من معاجم السير التقليدية تراوحت النسبة المئوية لسير النساء ما بين نصف في المائة إلى ثلاثة وعشرين في المائة، وذلك من بين واحدة إلى ما يزيد عن ألف وخمسمائة سيرة. وعندما طبقت المؤلفة التحليل الكمي quantitative analysis وجدتْ أنه يناقض الفكرة التي تقول إن جميع النساء المذكورات كن استثناءات عن قاعدة هيمنة الذكر. * نساء مهمشات * تخلص الباحثة رودد إلى القول: «يدهش المرء حين قراءته لآلاف تراجم النساء، بالدليل الذي يتناقض مع مشاهدة النساء المسلمات مهمشات، ومنعزلات، ويعانين من القيود المفروضة عليهن»، مضيفة: «إنني لست مسلمة ولا أستدعي لهذا العمل عاطفة النسويات المسلمات اللاتي يدرسن التاريخ الإسلامي والمراجع الثقافية، كما لا أشعر أنني مضطرة للدفاع عن سجل الإسلام حيال مكانة النساء، رغم أنني مدركة تماما أنه تم تصوير دور النساء في المجتمع الإسلامي التقليدي بصورة سلبية للغاية لا تبررها الحقيقة التاريخية». يقول العسكر لـ«الشرق الأوسط» في قراءته للكتاب بأنه: «كتاب طريف في موضوعه، ورغبت المؤلفة فيه - على حد قوله - في تحريك الماء الراكد في هذا الضرب من البحوث، ذلك أن الانطباع الذهني عن النساء في تاريخ المسلمين، وكما انعكس في الوعي الشعبي وبين بعض الدارسين والمسلمين أنفسهم، غالبا ما يقع ضمن إحدى وجهتي نظر متطرفتين: تعتقد أولاهما أن النساء مضطهدات في المجتمع الإسلامي. أما الثانية فتؤمن أن الإسلام أعطى المرأة موقعا لا نظير له في المجتمعات الأخرى». وزاد بالقول: «إن هذا الاستنتاج لا يخضع لبناء صورة متحررة نسبيا، ويزيد على ذلك أن الأكثرية الغالبة من الدراسات المتعلقة بالنساء في المجتمعات الإسلامية يجري تكريسها للحالة المعاصرة أو الماضي القريب. وهي حالة لا تسر ولا تشي بموقف الإسلام الصحيح من المرأة». ويضيف العسكر: «إن تلك الدراسات لا تتصل غالبا بتجارب تاريخية طويلة الأجل للموضوعات التي تقوم على دراستها، أو أنها تتبع على نحو مختصر فقط الجذور التاريخية. إن أول جيل من الدراسات التاريخية المعممة عن النساء في الإسلام كان يميل للسطحية، أو متأثرا بدوافع آيديولوجية، ولم تبدأ الأعمال الشاملة الجادة في الظهور إلا بعد سنوات من الدراسة المكثفة. وكان من المحتم أن تواجه تلك الأعمال مشاكل منهجيه». وأضاف: «لو رجعنا إلى تاريخ التأليف في هذا الموضع نجد أن أقدم معجم إسلامي للسير الشخصية هو: كتاب الطبقات لابن سعد، الذي أُنجز بعد نحو قرنين من حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفه ابن سعد آخرون ترجموا لعدد من الرجال والنساء من عصر النبي إلى زمانهم، معتمدين على الروايات الشفاهية والأعمال المسجلة التي سبقتهم، والتي فقد الكثير منها. وبتعبير آخر فإن المجموعات الببلوغرافية التي تصدت للأحداث الماضية ضمت شخصيات بارزة عاشت منذ حلول الإسلام وحتى الآن». وشدد المترجم على أن المشكلة المنهجية والمعرفية في تراجم النساء تكمن في أن المؤلفين العرب درجوا على دمج أيام العرب القديمة، وحروب القبائل في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وغزوات ومعارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقل واحد يهتم بدراسات الشخصية العربية المبرزة. وفي هذا السياق لا بد أن يطغى الجنس الذكوري على ما سواه. هذا التوجه سابق لصناعة المعاجم والتراجم المتعلقة برواة الحديث النبوي الشريف، الذي احتوى قدرا معقولا من تراجم النساء. وتابع: «تواصل التأليف في هذا الفن ومع منتصف القرن العشرين الميلادي اكتملت أجزاء السجل ذي النموذج الغربي الذي حمل عنوان: (Who›s in the Arab World) مع غيره من كتابات إسلامية تقليدية، ومن ثم فقد تم إصدار مئات وربما آلاف من مجموعات السير الإسلامية على مدار القرون، وربما يحتوي كل منها على مدونات لسير شخصية نسائية تتراوح من بضع مئات إلى عشرات الألوف، خصص بعضها لفئات معينة من الأشخاص، بينما كانت الأخرى أكثر عمومية. ولا بد من القول: إن هذا القدر الضخم من السير النسائية المدونة يمثل تصنيفا ثريا لبيانات عن دور النساء في المجتمع والثقافة الإسلامية عبر العصور». ولفت الدكتور العسكر إلى أن مؤلفة الكتاب الدكتورة روث رودد قدمت بدراسة أكاديمية طويلة ومضنية عن تراجم النساء من أجل رصد الانطباع الذهني عنهن في المجتمع الإسلامي، على مدار القرون السبعة الهجرية الأولى، وذلك من خلال رؤى كُتاب مسلمين، كما سعت إلى التغلب على المآزق الخفية لدراسات تاريخية عريضة، وذلك عن طريق التركيز على وحدة مستقلة من التحليل «المدخل لسيرة المرأة» في ضرب أدبي فريد «المعجم الخاص بالسير الشخصية للمرأة» الذي شاع في الثقافة الإسلامية من عصر تكوينها وإلى الوقت الحاضر. ويضيف: «ناقشت الدكتورة رودد أصول وتطور وغاية مجموعة التراجم والسير النسائية الإسلامية، وهي لم تغفل القضايا ذات الصلة، التي تنطوي على ما هو أكثر من مجرد أهمية التأريخ، وهي قضايا ذات صلة بفهم دور النساء، كما وصفته كتابات السير والتراجم التي تصدت لتراجم النساء. واستخدمت أيضا مجموعات سير وتراجم إسلامية مع مصادر أخرى، وذلك لدراسة حالات في التأريخ الإسلامي، وتاريخ الشرق الأوسط، ويشمل ذلك بعض الدراسات المخصصة لدور النساء، وقد اعتمدت بشكل رئيس على معاجم السير كأعمال مرجعية ذات قيمة للتعريف بالشخصيات. ومع ذلك ومن خلال تحليلاتها الكمية لمادة السير وجدتْ أنها أداة قوية لفهم الحقائق المتكررة، التي تبدو غير ذات معنى، كما قدمت تحليلاتها منهجا أكثر دقة لعقد المقارنات زمانا ومكانا. وباتباع المنهج التشخيصي، أزعم أن المؤلفة وصلت، من خلال هذه الدراسة، إلى معرفة التواتر النسبي لسير النساء في المجموعات الإسلامية، وفي الإنجازات البارزة للنساء، التي كان مؤلفو السير والتراجم النسائية لا يرون ثمة جدوى في تسجيلها للأجيال القادمة». * نساء في التاريخ الإسلامي * تشير مؤلفة الكتاب إلى الوجوه النسائية الرائدة في الأجيال المتعاقبة، وترصد إنجاز المسلمات كالصحابيات مثلا، اللواتي وصل عددهن إلى ألف ومائتي امرأة أُحصين بين آلاف الصحابة الذين كانوا على اتصال مباشر بالرسول صلى الله عليه وسلم. وتصل الكاتبة إلى استنتاج مهم، وهو أن النساء المذكورات في التراجم الإسلامية، نسبن إلى القرابة الذكورية في شكل رئيسي، لكن المؤلفة لاحظت أن القرابة الأنثوية لم يتم تجاهلها، بل كانت ذات أهمية في حالات معينة، مما يستدعي القول إن المجتمع كان شبه أمومي كما تقول. وتهتم روث رودد بشكل خاص بدور السيدة عائشة بنت أبي بكر زوجة النبي باعتبارها قدوة في رواية الأحاديث، إذ قيّل إنها روت 1210 حديثا، علما بأن نحو 300 فقط أُدرجت في المجموعات المعتمدة في صحيحي مسلم والبخاري. ولم تكن السيدة عائشة، راوية فقط إذ تصدت لتصحيح بعض الأحاديث الضعيفة، كما أنها اشتهرت بثقافتها الأدبية الواسعة وبتضلعها في الفقه. لقد بنت المؤلفة دورا مركزيا للسيدة عائشة ضمن دائرة واسعة من النساء اللاتي أدخلت تراجمهن في التراجم الإسلامية. وفوق هذا تأخذ مؤلفة الكتاب نماذج نسائية أخرى من جيل الرواة الثاني ومن بينهم عمرة بنت عبد الرحمن الفقيهة الحُجَّة التي أطلق عليها ابن سعد لقب «عالمة»، وحفصة بنت سيرين «الفقيهة الزاهدة» وعائشة بنت طلحة التي وُصفت بأنها الراوية الحجة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وتحتفي المؤلفة كذلك بالسيدة نفيسة بنت الحسن التي اشتهرت بتضلعها في العلوم الدينية المتعددة، والتي أصبحت أستاذة الإمام الشافعي عندما استقر به المقام في مصر، كما عدت مؤلفة الكتاب السيدة شهدة بنت أبي نصر أحمد الأبياري من بين أفضل علماء عصرها، وهي التي درّست «صحيح البخاري» مدة طويلة. ثمة نقطة مهمة تكشف عنها مؤلفة الكتاب وهي تتعلق بثلاث نساء ممن عشن في القرن العاشر الهجري وورد ذكرهن كعالمات بالشريعة الإسلامية، وكانت إحداهن حصلت على إجازة للعمل كمفتية، وليس غريبا ما أشارت إليه الكاتبة، فمن المعلوم أن الكثير من «الفقيهات» وصلن إلى درجة معترف بها تؤهلهن لإصدار الفتاوى، وتذكر على سبيل المثال: هجيمة بنت حيي الأوصابية التي وصفت بأنها من أهم الفقيهات في دمشق، وورد أنه تتلمذ على يديها الكثير من الرجال، وكذلك التونسية سيدة بنت عبد الغني العبدرية التي قامت بتدريس الشريعة الإسلامية مدة ليست باليسيرة، وحضرت بانتظام اجتماعات مجلس كبار الفقهاء. وحول منهج الكتاب يوضح العسكر أنه يجمع بين المنهج الكمي والمنهج الوصفي التتبعي، إذ حصرت المؤلفة من خلال دراستها الموسعة أعداد الظواهر المتباينة ونسبها، ولم تتجاهل في الوقت نفسه التحليل الكمي في وصف المادة مدار البحث، كما وضعت شرحا للمنهجية المتبناة في تحليل مجموعات السير الإسلامية، والمشاكل التي القائمة وحلولها. ويرى العسكر أن «ما توصلت إليه المؤلفة من نتائج ثمينة يساعد على إعادة النظر في مكانة النساء المسلمات في المجتمع منذ فجر الإسلام. وهي باعتمادها على كتب الطبقات الإسلامية قد فتحت الباب مشرعا للبحث في حقول معرفية أخرى، وألاّ نكتفي بحقل معرفي واحد، عند رسم صورة للمرأة في المجتمع الإسلامي».