لعل المقولة التي لاحقت المتنبي تنطبق تماماً على روائي ألمانيا الأشهر غونتر غراس (1927 – 2015) الذي ملأ دنيا الأدب في ألمانيا وخارجها، وشغل الناس بأدبه ومواقفه السياسية. منذ أول ظهور له خلال الاجتماع السنوي لـ «جماعة 47» الأدبية الأسطورية عام 1958، وغونتر غراس هو الأديب الحداثي، والوجه الأبرز للأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثر الأدباء الألمان تأثيراً في الأدب العالمي، وبروايته «الطبل الصفيح» أصبح نموذجاً للعديد من الأدباء في العالم الذين اقتدوا بهذه الرواية «البيكارسكية»، مثل سلمان رشدي وجون إرفينغ. ولعل شهرة غراس في المنطقة العربية ارتكزت أساساً على مواقفه السياسية. وبالرغم من ترجمة عدد كبير من أعماله إلى العربية، فلا نستطيع القول إنه قُرئ عربياً على نطاق واسع، أو أثر في الأدباء العرب، مثلما فعل بعض أدباء أميركا اللاتينية على سبيل المثل. غونتر غراس أيضاً لم يعرف إلا القليل عن الأدب العربي. زار حامل نوبل اليمن مرتين، عامي 2002 و2003، وهناك التقى بعدد من المثقفين العرب، مثل أدونيس ومحمود درويش وجمال الغيطاني ونجوى بركات وحسن داوود. وعندما سألته في صنعاء عن الأعمال التي قرأها بالعربية قال أنه لم يقرأ سوى عدد قليل من روايات لنجيب محفوظ التي أعجبته بالرغم من كلاسيكيتها، لا سيما رواياته الأخيرة. أما ما خلب لب غراس، فلم يكن الأدب العربي، بل العمارة اليمنية التي أحبها كثيراً، ولهذا تبرع بمبلغ لإنشاء مدرسة للعمارة الطينية في شبام للحفاظ على هذا التراث المعماري الجميل. المتعدد وإن كانت شهرة غراس العالمية جاءت مع الرواية، فهو قد بدأ حياته فناناً تشكيلياً. التحق غراس بعد الحرب العالمية الثانية بأكاديمية الفنون في دوسلدورف، وكان هدفه أن يصبح نحاتاً. غير أنه سرعان ما توجه للشعر، وكشاعر دُعي إلى الاجتماع المذكور لجماعة 47 حيث قرأ فصلين من روايته الأولى «الطبل الصفيح» وحصل على جائزة ذلك الملتقى الأدبي. حققت «الطبل الصفيح» فور صدورها عام 1959 شهرة كبيرة داخل ألمانيا وخارجها. وعندما ترجمت الرواية عام 1963 في الولايات المتحدة، أصابت نجاحاً أذهل كاتبها الذي ظن أن موضوعها لا يهم القراء خارج ألمانيا. وتُرجمت الرواية فيما بعد إلى نحو خمسين لغة. وربما لم يُترجم لكاتب ألماني، مثلما تُرجم لغونتر غراس، كما لم تحقق رواية شهرة ونجاحاً أدبياً ومادياً مثلما فعلت «الطبل الصفيح» التي تحولت أيضاً إلى فيلم سينمائي ناجح، أخرجه فولكر شلوندورف ونال عنه جائزة مهرجان كان عام 1979، وجائزة الأوسكار عام 1980. وظل غراس في نظر القراء والنقاد قارع «الطبل الصفيح»، رغم كثرة الأعمال التي كتبها بعد ذلك، والتي عاب النقاد على كثير منها الترهل والتضخم، مثل «سنوات الكلاب» (1963)، و «سمكة موسى» (1977)، و «الجرذة» (1986) و «مجال شاسع» (1995). مثل معظم أبناء جيله، كانت خبرة الاشتراك في الحرب والقتال على الجبهة من الخبرات المحورية في حياة غراس. على الجبهة رأى غراس زملاءه يتحولون إلى أشلاء. آنذاك أدرك أنه «يحيا مصادفةً»، مثلما قال لكاتب سيرته ميشائيل يورغس، ولذلك شعر بأن هناك مهمة ملقاة على عاتقه: أن يتحدث باسم الذين قُتلوا. وفي كل أعماله – من «الطبل الصفيح» (1959) حتى كتابه «أثناء تقشير البصل» (2006) – لا يني غراس ينبش في الماضي النازي الكريه الذي شبهه في رواية «مشية السرطان» (2002) بالمرحاض، «كلما شددت السيفون، تصاعد الخراء إلى أعلى». عبر أعماله المنتقده للنازية، وعبر مواقفه السياسية الجريئة العديدة، وانحيازه للضعفاء والمهمشين، اكتسب غراس عبر السنين صفة «المؤسسة الأخلاقية» و «ضمير الأمة». وهذا ما أشارت إليه أيضاً لجنة نوبل عام 1999 عندما قالت أنه «اضطلع بواجب عظيم» وهو «تصحيح تاريخ عصره»، «فبعث إلى الحياة المنسيين والمتُنكر لهم والضحايا والخاسرين، كما بعث إلى الحياة تلك الأكاذيب التي أراد الشعب تناسيها لأنه صدقها يوماً ما». وتضيف الأكاديمية السويدية «إن ضربة فأس غونتر غراس تحفر عميقاً في الماضي... فإذ بجذور الخير والشر ملتفة متشابكة بعضها مع بعض». شروخ في «المؤسسة الأخلاقية» غير أن هذه «المؤسسة الأخلاقية» أصيبت بشروخ كبيرة، إن لم نقل إنها قد انهارت في ألمانيا تماماً بعد نشر كتابه «أثناء تقشير البصل» عام 2006، وفي ذلك ظلم كبير لغونتر غراس. في كتابه فجر غراس زلزالاً باعترافه المتأخر جداً وهو في الثمانين من العمر بأنه التحق صبياً، وبمحض إرادته، بمنظمة من أكثر المنظمات النازية وحشيةً، وهي «سلاح الإس إس». لماذا أراد غراس تناسي انتمائه لسلاح الإس إس، وهو الأديب الذي لم يدع فرصة إلا وهاجم فيها صمت الأكثرية ورغبتها في تناسي الماضي النازي؟ لماذا لم يبين – طوال تلك السنوات - تشابك «جذور الخير والشر» في سيرته هو؟ هذا هو التناقض الرئيسي في حياة غراس، إنساناً وكاتباً، وهو تناقض كشف عنه بشجاعة، وإنْ متأخراً جداً. ويعد كتاب «أثناء تقشير البصل» الجزء الأول في سيرته الذاتية، وبعد عامين صدر الجزء الثاني بعنوان «الصندوق»، أما الجزء الثالث فصدر عام 2010 بعنوان «كلمات غريم». لكنّ المجلدين الأخيرين صدرا في هدوء ولم يثيرا أي ضجة، إذ لم يتضمنا أي اعترافات مثيرة. حتى النفس الأخير ظل غراس أديباً مشاركاً في الحياة السياسية، وفياً لمبدأ التدخل في الحياة العامة. كان ذلك الموقف مثار سخرية البعض، فقال عنه يوماً الأديب السويسري ماكس فريش: «إذا رأى غراس ميكروفوناً، فلا بد من أن يصدر تصريحاً!» انتقد غراس سياسة ألمانيا الاتحادية الساعية إلى الوحدة مع ألمانيا الشرقية بسرعة، أو «التهامها»، وانتقد الحرب على العراق معتبراً أنها تجسيد لظلم الأقوى. وتفجرت آخر معارك غراس السياسية عندما كتب قصيدته «ما ينبغي أن يُقال»، وهي قصيدة مباشرة في رسالتها السياسية، ليس فيها من الشعر شيء، لكنها جريئة سياسياً، وخاصة عندما تصدر من أديب ألماني طالما تضامن مع إسرائيل، وظل – حتى في هذه القصيدة – يعتبر نفسه صديقاً للدولة اليهودية. «طاعنا في العمر، وبآخر قطرات الحبر» هاجم غراس القوة النووية إسرائيل التي «تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته». وبالطبع أثارت القصيدة جدلاً كبيراً في ألمانيا وفي إسرائيل، وخاصة على خلفية اعترافه قبلها بسنوات بماضيه النازي، فجلبت له التهمة المعتادة، تهمة «معاداة السامية»، التي اعتبرها غراس – في نشاط أقيم في جامعة هانوفر في أواخر العام الماضي - «تهمة رخيصة»، مذكراً بأن مسؤولية الألمان عن اغتيال اليهود لا يجب أن تجعلهم يغضون البصر عن أن إسرائيل «تستولي على أراضي الفلسطينيين وتدمر قراهم وتسوّيها بالأرض». واعتبر غراس في ذلك اللقاء أن إسرائيل قوة نووية لا تقل خطورة عن باكستان. ولم يتوقف غراس عن الكتابة وعن إثارة المعارك السياسية حتى آخر أيام حياته، فهو يمثل جيلاً من الأدباء الملتزمين بهموم المجتمع، يعبر أبناؤه بصوت عال عما يعتقدون أنه حق. هذا الجيل انقرض من ألمانيا، وكان غراس بلا شك آخر ممثليه الكبار. وربما تظل مواقف غراس السياسية مثار جدل حتى بعد وفاته، وربما سيغمرها النسيان بعد سنوات. الأكيد أن عدداً من أعماله سيبقى، لا سيما روايته الفريدة «الطبل الصفيح». وقد أعلنت دار نشر شتايدل أن غراس ترك مخطوطة جاهزة للنشر، ستُطبع في صيف هذا العام. ومَن يعلم، ربما استعاد غراس بهذه المخطوطة بعضاً من بهائه الأدبي.